سورة النور - تفسير روائع البيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}
[4] في أعقاب حادثة الإفك:
التحليل اللفظي:
{يَأْتَلِ}: أي يحلف من (الأليّة) بمعنى الحلف، ووزنها (يَفْتَعِلْ) ومنه قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} [البقرة: 226] وقال بعضهم: معناه يقصّر من قولك: ألَوْتُ في كذا إذا قصّرت فيه ومنه قوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118].
قال الزمخشري: (يأتل) من ائتلى إذا حلف: افتعال من الأليّة، وقيل: من قولهم: ما ألوت جهداً، إذا لم تدّخر منه شيئاً، ويشهد للأول قراءة الحسن: ولا يتألَّ والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان.
{أُوْلُواْ الفضل}: أصحاب الصلاح والدين، ومعنى الفضل الزيادة والمراد هنا أهل البر والدين والصلاح.
{والسعة}: المراد بها السعة في الرزق والمال، الذين وسّع الله عليهم وأغناهم من فضله، قال الشاعر:
ومن يك ذا مال فيبخل بفضله *** على غيره يستغنى عنه ويذمم
{أَن يؤتوا} قال ابن قتيبة معناه: أن لا يؤتوا، وقال القرطبي قوله تعالى: {أَن يؤتوا} أي ألاّ يؤتوا فحذف (لا) كقول القائل:
فقلتُ يمينُ اللَّه أبرحُ قاعداً *** ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصالي
أقول: هذا الحذف وارد في كلام العرب ومثله قوله تعالى: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] أي لئلا تضلّوا أو خشية أن تضلوا.
{وَلْيَعْفُواْ}: أي يغفروا الزلات، من عفا الربع إذا محي أثره ودرس، فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع.
{المحصنات}: العفائف الشريفات الطاهرات، وقد تقدم معنى الإحصان فيما سبق.
{الغافلات}: جمع غافلة وهي التي غفلت عن الفاحشة، بحيث لا تخطر ببالها، وقيل: هي السليمة الصدر، النقية القلب، التي ليس فيها دهاء ولا مكر، لأنها لم تجرب الأمور، ولم تزن الأحوال، فلا تفطن لما تفطن له المجرِّبة العارفة.
{لُعِنُواْ}: اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله عز وجل: {وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء: 52] وقد يراد به الذكر السَّيِّئ أو الحد (الجلد) كما في هذه الآية حيث أقيم عليهم حد القذف.
{تَشْهَدُ}: تقر وتعترف، وشهادة الألسنة إقرارها بما تكلموا به من الفرية، وهؤلاء غير الذين يختم على أفواههم. وقال ابن جرير: المعنى أنّ ألسنة بعضهم تشهد على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان.
{يُوَفِّيهِمُ}: التوفية إعطاء الشيء وافياً، يقال: تَوفّى حقه إذا أخذه كاملاً غير منقوص.
{دِينَهُمُ الحق}: أي حسابهم العدل، أو جزاءهم الواجب، والدين في اللغة بمعنى الجزاء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إعمل ما شئت كما تدين تدان» أي كما تفعل تجزى.
{الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ}: المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، وهو جمع خبيثة وخبيث، والخبيثُ الذي يعمل الفواحش والمنكرات سمّى خبيثاً لخبث باطنه وسوء عمله قال تعالى:
{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث} [الأنبياء: 74] وذهب جمهور المفسّرين إلى أن معنى الآية: الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال. والخبيثون من الناس للخبيثات من القول، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول.. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية واختاره ابن جرير الطبري.
{مُبَرَّءُونَ}: أي منزّهون مما رُمُوا به، والمراد بالآية براءة الصدّيقة عائشة رضي الله عنها مما رماها به أهل الإفك والبهتان، وجاء بصيغة الجمع للتعظيم.
{مَّغْفِرَةٌ}: أي محو وغفران للذنب، والبشر جميعاً معرضون للخطأ وقيل في الآية إنه من باب: (حسناتُ الأبرار سيئات المقربين).
{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}: قال الألوسي: هو الجنة كما قال أكثر المفسرين. ويشهد له قوله تعالى في سورة الأحزاب في أمهات المؤمنين: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب: 31] فإن المراد به الجنة.
المعنى الإجمالي:
يقول الله جل ثناؤه ما معناه: لا يحلف أهل الفضل والصلاح والدين. الذين وسّع الله عليهم في الرزق وأغناهم من فضله، على ألا يؤتوا أقاربهم من الفقراء والمهاجرين ما كان يعطونهم إياه من الإحسان لجرم ارتكبوه، أو ذنب فعلوه. وليعفوا عما كان منهم من جرم، وليصفحوا عما بدر منهم من إساءة. وليعودوا إلى مثل ما كانوا عليه من الإفضال والإحسان، ألا تحبون أيها المؤمنون أن يكفر الله عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ويدخلكم الجنة مع الأبرار!!
ثم أخبر تعالى بأن الذين يرمون المؤمنات العفيفات الطاهرات بالزنى، ويقذفونهن بالفاحشة، وهنّ الغافلات عن مثل هذا الافتراء والبهتان... هؤلاء الذين يتهمون الحرائر العفيفات الشريفات، قد لعنهم الله بسبب هذا البهتان. فطردهم من رحمته، وأوجب لهم العذاب الأليم، الجلد في الدنيا، وعذاب جهنم في الآخرة، بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة في حق أولئك المؤمنات... وليس هذا فحسب بل سوف تنطق عليهم جوارحهم، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، في ذلك اليوم الرهيب. بما كانوا يفعلونه من الإفك والبهتان، وستكون فضيحتهم عظيمة، عندما ينكشف أمرهم على رؤوس الأشهاد، وينالون جزاءهم العادل من أحكم الحاكمين، الذي لا يضيع عنده مثقال ذرة ويعلمون في ذلك اليوم أن الله عادل، لا يظلم أحداً من خلقه؛ لأنه هو الحق المبين، الذي يكشف لكل إنسان كتاب أعماله، ويجازيه عليها الجزاء العادل.
ثم أخبر تعالى ببراءة السيدة عائشة الصدّيقة أم المؤمنين رضوان الله عليها، مما رماها به أهل الضلال والنفاق، وتقوّلوا له عليها من الفاحشة، وأتى بالبرهان الساطع، والدليل القاطع، على عصمتها ونزاهتها وبراءتها، فهي زوج رسول الله الطاهرة الشريفة، ورسول الله طيّب طاهر. وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه، فالخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء. والطيبات من النساء للطّيبين من الرجال، والطّيبون من الرجال للطيبات من النساء، أولئك المتهمات في أعراضهن، بريئات من تلك التهمة الشنيعة، كيف لا وهنَّ أزواج أشرف رسول، وأكرم مخلوق على الله، وما كان الله ليقسمهنَّ لأحب عباده إليه إن لم يكنَّ طاهرات النفس {أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}!!
سبب النزول:
1- روى ابن جرير الطبري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما نزل قوله تعالى:
{إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} [النور: 11] الآية في عائشة وفيمن قال لها ما قال، قال أبو بكر:- وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته- والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً، ولا أنفعه بنفع أبداً، بعد الذي قال لعائشة ما قال، وأدخل عليها ما أدخل، قالت فأنزل الله في ذلك: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى...} الآية قالت: فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجّع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه، وقال: «والله لا أنزعها منه أبداً»
2- وأخرج ابن المنذر عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان مسطح بن أثاثة) ممن تولى كِبْرَه أهل الإفك، وكان قريباً لأبي بكر، وكان في عياله، فحلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينيله خيراً أبداً فأنزل الله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة} الآية قالت: فأعاده أبو بكر إلى عياله، وقال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها، إلاّ تحلّلتها وأتيت الذي هو خير.
وفي رواية أخرى أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر فتلاها عليه، فقال: ألا تحب أن يغفر الله لك؟ قال: بلى، قال: فاعف عنه وتجاوز، فقال أبو بكر: لا جرم والله لا أمنعه معروفاً كنت أوليه قبل اليوم، وضعّف له بعد ذلك فكان يعطيه ضِعْفي ما كان يعطيه.
وجوه القراءات:
1- قرأ الجمهور: {ولا يأتل} على وزن (يفتعِل) وقرأ الحسن وأبو العالية: {ولا يتألّ} بهمزة مفتوحة مع تشديد اللام على وزن (يتعَلَّ) وهو مضارع تألى بمعنى حلف قال الشاعر:
تألّى ابن أوس حِلفةً ليردّني *** إلى نسوة لي كأنهن مقائد
وهذه القراءة تؤيد المعنى الأول ليأتل. وليس كما قال أبو عبيدة إنه من (الألْو) بوزن الدلو بمعنى لا يقصّر، واستشهد بقوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] فإنّ سبب النزول يؤيد الرأي الأول.
2- قرأ الجمهور: {أن يؤتوا} وقرأ أبو حيوة: {أن تُؤتوا} بتاء الخطاب على طريق الالتفات.
3- قوله: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا} قراءة الجمهور بالياء، وقرأ الحسن، وسفيان بن الحسين {ولتَعْفوا ولتَصْفحوا} بتاء الخطاب على وفق قوله تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ}.
4- قرأ الجمهور: {يوم تشهد} بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي: {يوم يشهد} بالياء بدل التاء، قال الألوسي: ووجهه ظاهر.
5- قرأ الجمهور: {دينَهم الحقّ} بالفتح على أنه صفة للدّين بمعنى حسابهم العدل، وقرأ مجاهد والأعمش: {دينَهم الحقُّ} برفع القاف على أنه صفة للإسم الجليل. (ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصوف وصفته) ويصبح المعنى: يومئذ يوفيهم اللَّهُ الحقّ دينهم.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: قوله تعالى: {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة...} الآية هذه شهادة عظيمة من الله سبحانه بفضل أبي بكر، وأنه أفضل الصحابة.
قال الفخر الرازي: أجمع المفسّرون على أن المراد من قوله تعالى: {أُوْلُواْ الفضل} أبو بكر رضي الله عنه، وهذه الآية تدل على أنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له، والمدح من الله تعالى بالدنيا غير جائز. فتعيّن أن يكون المراد منه الفضل في الدين. ولأنه لو أريد به الفضل في الدنيا لكان قوله (والسعة) تكريراً. فلما أثبت الله له الفضل المطلق وجب أن يكون أفضل الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو السعود: قوله تعالى: {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} أي في الدين، وكفى به دليلاً على فضل الصدّيق رضي الله تعالى عنه.
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {أَن يؤتوا} فيه حذف بالإيجاز، فقد حذفت منه (لا) لدلالة المعنى على ذلك، أي على أن لا يؤتوا. قال الزجّاج، إنّ (لا) تحذف في اليمين كثيراً قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ} [البقرة: 224] يعني أن لا تبروا. وقال امرؤ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعداً أي لا أبرح.
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} هذا خطاب بصيغة الجمع، والمراد به أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وورد الخطاب بهذه الصيغة للتعظيم كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9].
قال الإمام الفخر رحمه الله: فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه وحين سمعها أبو بكر قال: بلى أحب أن يغفر الله لي. وأعاد النفقة إلى مسطح.
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات} قال العلامة ابن الجوزي: فإن قيل: لم أقتصر على ذكر المحصنات دون الرجال؟
فالجواب أنّ من رمى مؤمنة فلا بدّ أن يرمي معها مؤمناً، فاستغني عن ذكر المؤمنين. ومثله قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أراد: والبرد، قاله الزجاج.
اللطيفة الخامسة: ذكر الله تعالى في أول السورة المحصنات بقوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} [النور: 4] ولم يقيّد المحصنات هناك بوصفٍ وأما هنا فقد قيّده بأوصاف عديدة بقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات} والسرُّ في هذا أن هذه الآيات خاصة بأمهات المؤمنين، رضوان الله عليهن أجمعين، وتدخل السيدة عائشة فيهن دخولاً أولياً، فاتهام هؤلاء الأزواج الطاهرات إتهام ل (بيت النبوّة)، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما، حين قرأ سورة النور ففسّرها فلما أتى على هذه الآية: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات} قال: هذه في (عائشة) وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات، من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة، ثم تلا هذه الآية: {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فهمّ بعض القوم أن يقوم إلى ابن عباس فيقبّل رأسه لحسن ما فسّره.
اللطيفة السادسة: أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون للخبيثات} إلى مبدأ هام من مبادئ الحياة الاجتماعية، وهو أن النفوس الخبيثة لا تلتئم إلا مع النفوس الخبيثة من مثلها، والنفوس الطيبة لا تمتزج إلا بالنفوس الطيبة من مثلها، وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الأطيبين، وأفضل الأولين والآخرين، تبيّن أنّ الصدّيقة رضي الله عنها من أطيب النساء بالضرورة، وأنّ ما قيل في حقها كذب وبهتان كما نطق بذلك القرآن {أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} ويا لها من شهادة قاطعة!!
قال أبو السعود: هذا مسوق على قاعدة السنّة الإلهية، الجارية فيما بين الخلق، على موجب أنّ لله ملكاً يسوق الأهل إلى الأهل، لأن المجانسة من دواعي الانضمام... وما في الإشارة من معنى البعد (أولئك) للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم، وبعد منزلتهم في الفضل، أي أولئك الموصوفون بعلو الشأن، مبرءون مما تقوّله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة.
اللطيفة السابعة: قال الزمخشري في تفسيره (الكشاف): لقد برَأ الله تعالى أربعة بأربعة: برّأ يوسف بلسان الشاهد {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} [يوسف: 26]. وبرّأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه.. وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها {إِنِّي عَبْدُ الله} [مريم: 30]. وبرّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز، المتلوّ على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك؟ وما ذاك إلاّ لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على إنافة محل سيد آدم، وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين، ومن أراد أن يتحقّق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم، وتقدّم قدمه، وإحرازه قَصَب السبق دون كل سابق، فليتلقّ ذلك من آيات الإفك، وليتأمل كيف غضب الله في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه.
خصائص السيدة عائشة رضي الله عنها: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لقد أُعطِيتُ تسعاً ما أعطيتهنّ امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكراً وما تزوّج بكراً غيري.
ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي. ولقد حفّته الملائكة في بيتي. وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإني لابنه خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خُلقت طيّبة عند طيّب. ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً.
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: هل يحبط العمل الصالح بارتكاب المعاصي؟
أجمع المفسّرون على أن المراد من قوله تعالى: {أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} مِسْطَح، لأنه كان قريباً لأبي بكر، وكان من المساكين، والمهاجرين البدريّين، وكان قد وقع في حديث الإفك، وقذف عائشة ثم تاب بعد ذلك، ولا شك أن القذف من الذنوب والكبائر، وقد احتج أهل السنة والجماعة بهذه الآية الكريمة على عدم بطلان العمل بارتكاب الذنوب والمعاصي، ووجه الاستدلال أن الله سبحانه وصف (مسطحاً) بكونه من المهاجرين في سبيل الله بعد أن أتى بالقذف، وهذه صفة مدح، فدلّ على أنّ ثواب كونه مهاجراً لم يحبط بإقدامه على القذف. وقالوا: لا يحبط العمل إلا بالإشراك، والردة عن الإسلام والعياذ بالله، أما سائر المعاصي فلا تُحبِط العمل إلا إذا استحل الإنسان المحرّم فحينئذٍ يرتد وبالردة يحبط العمل قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [المائدة: 5] وقال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة...} [البقرة: 217] الآية.
الحكم الثاني: هل العفو عن المسيء واجب على الإنسان؟
اتفق الفقهاء على أنّ العفو والصفح عن المسيء حسن ومندوب إليه، لقوله تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا} والأمر هنا للندب والإرشاد، وليس للوجوب، لأن الإنسان يجوز له أن يقتص ممّن أساء إليه، فلو كان العفو واجباً لما جاز طلب القصاص، ومما يدل لرأي الفقهاء قوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} [الشورى: 40] وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه فيندب العفو عن المسيء لقوله تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ}؟» فعلّق الغفران بالعفو والصفح، قال الإمام الفخر: ولو لم يدل عليه إلا هذه الآية لكفى.
الحكم الثالث: هل تجب الكفارة على من حنث في يمينه؟
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير، ثمّ يكفّر عن يمينه لقوله عليه السلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه».
فتجب الكفارة بالحنث في اليمين، سواء كان الحانث في أمر فيه خير أو غير ذلك.
وقال بعضهم: إنه يأتي بالذي هو خير وليس عليه كفارة ليمينه، واستدلوا بظاهر هذه الآية: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} ووجه استدلالهم أن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة.
واستدلوا كذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته».
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على وجوب الكفارة على الحانث بما يلي:
أ- قوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية.
ب- وقوله تعالى: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وذلك عام في الحانث في الخير وغيره.
ح- وقوله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] والحنث كان خيراً من تركه، وأمره الله بضرب لا يبلغ منها، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها، بل كان يحنث بلا كفارة.
د- وبحديث: «فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه» وقد تقدم.
قال الجصاص: أم استدلالهم بالآية فليس فيما ذكروا دلالة على سقوط الكفارة، لأن الله قد بيّن إيجاب الكفارة في قوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وقوله: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] وذلك عام فيمن حنث فيما هو خير وفي غيره، وأما استدلالهم بالحديث فليأت الذي هو خير وذلك كفارته فإن معناه تكفير الذنب. لا الكفارة المذكورة في الكتاب، وذلك لأنه منهي عن أن يحلف على ترك طاعة الله. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحنث والتوبة، وأخبر أن ذلك يكفّر ذنبه الذي اقترفه بالحلف.
وقال ابن العربي: عجبت لقوم يتكلفون فيتكلمون بما لا يعلمون، هذا أبو بكر حلف ألا ينفق على مسطح، ثم رجَّع إليه نفقته، فمن للمتكلف لنا تكلّف بأن أبا بكر لم يكفّر حتى يتكلم بهذا الهزء.
الترجيح: ومن استعراض الأدلة يتبيّن لنا قوة رأي الجمهور في وجوب الكفارة على الحانث مطلقاً وضعف رأي غيرهم والله أعلم.
الحكم الرابع: هل تنعقد اليمين في الامتناع عن فعل الخير؟
تنعقد اليمين إذا حلف الإنسان أن يمتنع عن فعل الخير وتجب عليه الكفارة عند الجمهور كما أسلفنا، ولكنّ هذا النوع من الحلف غير جائز لما فيه من ترك الطاعة لله عز وجل في قوله: {وافعلوا الخير} [الحج: 77]. قال الفخر الرازي: في هذه الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة، وإنما تجوز إذا جعلت داعية للخير، لا صارفة عنه.
وقال الألوسي: وظاهر هذا حمل النهي على التحريم، وقيل: هو للكراهة، وقيل: إن الحلف على ترك الطاعة قد يكون حراماً، وقد يكون مكروهاً، فالنهي هنا لطلب الترك مطلقاً.
الحكم الخامس: هل يكفر من قذف إحدى أمهات المؤمنين؟
ذهب بعض العلماء إلى كفر من قذف إحدى نساء الرسول (أمهات المؤمنين) رضوان الله عليهن، وذلك لما ورد من الوعيد الشديد في حق قاذفهن كما قال تعالى: {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} حتى ذهب ابن عباس إلى عدم قبول توبته.
وحجة هؤلاء أن قذف أمهات المؤمنين، طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرح لكرامته ومن استباح الطعن في عرض الرسول فهو كافر مرتد عن الإسلام.
قال العلامة الألوسي رحمه الله: وظاهر هذه الآية كفر قاذف أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن لأن الله عز وجلّ رتّب على رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين، والذي ينبغي أن يعوِّلَ الحكم عليه بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين، بعد نزول الآيات، وتبيّن أنهن طيبات، سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله صلى الله عليه وسلم أم لم يستبح ولم يقصد، وأمّا من رمى قبل فالحكم بكفره مطلقاً غير ظاهر.
والظاهر أن يحكم بكفره إن كان مستبيحاً، أو قاصداً الطعن به عليه الصلاة والسلام كابن أُبيّ لعنه الله تعالى، فإن ذلك مما يقتضيه إمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك كحسّان. ومِسطَح، وحمنة، فإنّ الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين، ولا قاصدين الطعن بسيّد المرسلين، وإنما قالوا ما قالوا تقليداً، فوبخوا على ذلك توبيخاً شديداً.
أقول: إنّ من استحلّ قذف إحدى المؤمنات كافر، فكيف بمن يستحل قف أمهات المؤمنين الطاهرات وعلى رأسهن الصدّيقة عائشة التي برأها القرآن الكريم، ونزلت براءتها من السماء؟ ولا شك أن الخوض في أمهات المؤمنين بعد نزول القرآن الكريم، تكذيب لله عز وجل في إخباره، وطعن لرسول الله وإيذاء له في نسائه وهنّ العفيفات، الطاهرات، الشريفات، فيكون قاذفهن كافراً بلا تردد. والله تعالى يقول: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} [الأحزاب: 57].
الحكم السادس: هل يجوز لعن الفاسق أو الكافر؟
دلّ قوله تعالى: {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة} على جواز لعن الفاسق أو الكافر، وقد اتفق الفقهاء على جواز لعن من مات على الكفر كأبي جهل وأبي لهب، وعلى جواز التعميم باللعنة على الكفرة والفسقة والظالمين كقوله: لعنة الله على الظالمين، أو لعنة الله على الفاسقين، أو الكافرين... أما إذا خصّص باللعنة إنساناً معيّناً فلا يجوز حتى ولو كان كافراً، لأن معنى اللعنة: الطرد من رحمة الله. والدعاء عليه بأن يموت على الكفر، ولا يجوز لمسلم أن يتمنى موت غيره على الكفر، لأن الرضى بكفر الكافر كفر، والمسلم يريد الخير للناس، ويتمنى أن يموتوا على الإيمان جميعاً.
قال الألوسي: واعلم أنه لا خلاف في جواز لعن كافر معين، تحقّق موته على الكفر، إن لم يتضمن إيذاء مسلم، أما إن تضمّن ذلك حرم، ومن الحرام لعن (أبي طالب) على القول بموته كافراً، بل هو من أعظم ما يتضمن ما فيه إيذاء من يحرم إيذاؤه، ثمّ أن لعن من يجوز لعنه لا أرى أنه يعد عبادة إلا إذا تضمّن مصلحةً شرعية، وأما لعن كافر معيّن حي، فالمشهور أنه حرام، ومقتضى كلام حجة الإسلام الغزالي أنه كفر، لما فيه من سؤال تثبيته على الكفر الذي هو سبب اللعنة، وسؤالُ ذلك كفر.
وقال العلامة ابن حجر: ينبغي أن يقال: إن أراد بلعنة الدعاء عليه بتشديد الأمر، أو أطلق لم يكفر، وإن أراد سؤال بقائه على الكفر، أو الرضى ببقائه عليه كفر، فتدبر ذلك حق التدبر.
أقول: وردت نصوص في السنة المطهّرة تدل على جواز لعن الفاسق المعين، أو العاصي المشتهر الذي كثر ضرره، منها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بحمارٍ وُسِمَ في وجهه فقال: «لعن الله من فعل هذا».
ومنها ما صح أنه صلى الله عليه وسلم لعن قبائل من العرب بأعيانهم فقال: «اللهم العن رَعْلاً، وذَكوان، وعُصيّة، عصَوا الله تعالى ورسوله».
ومنها حديث: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء، فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح».
فيجوز لعن من اشتهر بالفسق والمعصية، وخاصة إذا كان ضرره بيناً أو أذاه واضحاً يتعدى إلى الناس، أو كان سيفاً للحجاج مسلطاً بالظلم والطغيان، كزبانية هذا الزمان، الذين يعتدون على عباد الله بدون حق، وقد أصبحنا في زمان لا يأمن فيه الإنسان على نفسه أو ماله وإنا لله وإنّا إليه راجعون، وقد حدّث المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى عن مثل هذا الصنف من الظلمة، وذلك من معجزات النبوة ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس». الحديث.
فيجوز لعن مثل هؤلاء الظلمة، المستبيحين للحرمات.. والدعاء لهم بالصلاح أفضل من اللّعن ولكن هيهات أن ينفع الدعاء بالصلاح لأمثال (أبي جهل) و(أبي لهب)!!
وقد قال (السراج البلقيني) بجواز لعن العاصي المعيّن، أو الفاسق المستهتر، وذلك ما دلت عليه النصوص النبوية الكريمة والله أعلم.
الحكم السابع: هل يقطع لأمهات المؤمنين بدخول الجنة؟
اتفق العلماء على أن العشرة المبشرين بالجنة، الذين أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، يقطع لهم بدخول الجنة، لأنّ خبر الرسول حق وهو بوحي من الله تعالى، وقد ألحق بعض العلماء أمهات المؤمنين بالعشرة المبشرين، بأن يقطع لهن بدخول الجنة، واستدلوا بقوله تعالى: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} بناءً على أن الآيات الكريمة نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عامة وفي شأن عائشة خاصة، والرزق الكريم الذي أشارت إليه الآية يراد منه الجنة بدليل قوله تعالى في مكان آخر: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب: 31] وهو استدلال حسن.
قال الإمام الفخر: بيّن الله تعالى أن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال، ولا أحد أطيب ولا أطهر من الرسول صلى الله عليه وسلم فأزواجه إذن لا يجوز أن يكنّ الاّ طيبات. ثمّ بيّن تعالى أنّ {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ويحتمل أن يكون ذلك خبراً مقطوعاً به. فيعلم بذلك أن أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام هنّ معه في الجنة، وهذا يدل على أن عائشة رضي الله عنها تصير إلى الجنّة، بخلاف مذهب الرافضة الذين يكفّرونها بسبب حرب يوم الجمل، فإنهم يردّون بذلك نصّ القرآن الكريم.
وقال العلامة الألوسي: وممّا يرد زعم الرافضة، القائلين بكفرها وموتها على ذلك وحاشاها لقصة وقعة الجمل، قول عمار بن ياسر في خطبته حين بعثه الأمير كرّم الله وجهه مع الحسن يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة: والله إني لأعلم أنها زوجة نبيّكم عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة. ولكن الله تعالى ابتلاكم بها ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها؟ ثم قال: ومما يقضي منه العجب ما رأيته في كتب بعض الشيعة. من أنها خرجت من أمهات المؤمنين بعد تلك الوقعة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأمير كرّم الله وجهه: قد أذنت لك أن تُخْرج بعد وفاتي من الزوجيّة من شئت من أزواجي ، فأخرجها من ذلك لما صدر منها معه ما صدر. ولعمري إنّ هذا مما يكاد يضحك الثكلى، وفي حسن معاملة الأمير إياها رضي الله تعالى عنها بعد استيلائه على العسكر ما يكذب ذلك. ولو لم يكن في فضلها إلا ما رواه البخاري ومسلم وأحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» لكفى ذلك، لكني مع هذا لا أقول بأنها أفضل من بضعته الكريمة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها.
قصة الإفك:
لم تسترح نفوس المنافقين من الكيد للإسلام، على المسلمين، حتى استهدفوا صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فرموه في أقدس شيء وأعزه، في عرضه المصون، وأهله الطاهرة البريئة، السيدة عائشة بن الصدّيق الأكبر رضي الله عنهما، وقد حاولوا بذلك أن يوجهوا ضربة للإسلام في الصميم، في شخص نبيه الكريم، عن طريق الطعن في عرضه واتهام أهله بارتكابها فاحشة الزنى التي هي من أقبح الجرائم وأشنعها على الإطلاق، وكان الذي تولى كقر هذه التهمة النكراء، وأشاع ذلك الإفك المفتري المزعوم.
رأس المنافقين (عبد الله بن أُبيّ بن سلول) لعنه الله، الذي ما فتئ يكيد للإسلام ولرسوله الكريم حتى أهلكه الله تعالى، وخلّص المسلمين من شره وبلائه.
وقد أنزل الله تبارك وتعالى في شأن هذا المنافق قرآناً يُتلى، وآيات تسطّر، ليكون ذلك درساً وعبرة للأمة، لتعرف فيه خطر (النفاق والمنافقين) وضررهم على الأمة الإسلامية، فيأخذوا الحيطة والحذر. والقرآن الكريم يكشف لنا عن شناعة الجرم وبشاعته، وهو يتناول بيت النبوّة الطاهر، وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم إنسان على الله، وعرض صديقه الأول (أبي بكر) رضي الله عنه أكرم إنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض رجل من خيرة الصحابة (صفوان بن المعطل) رضي الله عنه، يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يعرف عليه إلا خيراً... ذلك هو حديث الإفك الذي نزل فيه عشر آيات في كتاب الله تعالى، تبتدئ من قوله تعالى: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] وتنتهي بالبراءة التامة لبيت النبوة في قوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون للخبيثات والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون للطيبات أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
هذا الحادث- حادث الإفك- قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاماً لا تطاق. وكلّف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وزرع في بعض النفوس الشك والريبة والقلق، وعلّق قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلب زوجه عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق، وقلب صفوان بن المعطل شهراً كاملاً. وجعلها في حالة من الألم الذي لا يطاق، حتى نزل القرآن ببراءة زوج الرسول، الطاهرة العفيفة الشريفة، وببراءة ذلك المؤمن المجاهد المناضل (صفوان) وإدانة أهل النفاق، وحزب الضلال وعلى رأسهم (عبد الله بن أبي بن سلول) بالتآمر على بيت النبوة، وترويج الدعايات المغرضة ضد صاحب الرسالة عليه السلام، واختلاق الإفك والبهتان ضد المحصنات الغافلات المؤمنات، في تلك الحادثة المفجعة الأليمة.
ومن المؤسف أن يغترّ بهذه التهمة النكراء بعض المسلمين، وأن يتناقلها السذّج البسطاء منهم، وهم في غفلة عن مكائد المنافقين، ومؤامراتهم ومخططاتهم، الي يستهدفون بها الإسلام. وأن تروج أمثال هذه الفرية المكذوبة، فيقع في حبائل هذا الإفك والبهتان، أناس مؤمنون مشهورون بالتقى والصلاح. كأمثال (مسطح بن أثاثة) و(حسّان بن ثابت) و(حمنة بنت جحش) أخت السيدة زينب زوج الرسول الكريم، فلنترك المجال لأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، تروي لنا قصة هذا الألم، وتكشف عن سرّ هذه الآيات الكريمة التي نزلت بشأنها، وما افتراه عليها أهل الإفك والبهتان.
قصة الإفك كما في (الصحيحين)
روى الإمام البخاري ومسلم في (صحيحيهما) عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتُهنَّ خرج سهمها خرج بها معه. وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي. فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب، وأنا أحمل في هودج وأُنْزَل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل حتى جاوزت الجيش. فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظِفَار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه.
وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه. وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم. وإنما نأكل العُلْقَة من الطعام. فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج، فحملوه وكنت جارية حديثة السن. فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش. فجئت منزلهم وليس فيه أحد منهم. فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليّ.
فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت، وكان (صفوان بن المعطل السُّلَمي) ثم الذكواني قد عرّس وراء الجيش فادّلج فأصبح عندي منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني- وكان يراني قبل الحجاب- فاستيقطت باسترجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يديها فركبها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُعَرِّسين، قالت: فهلك في شأني من هلك، وكان الذي تولى كبر الإثم (عبد الله بن أبيّ بن سلول) فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر.
وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلّم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف، فذلك الذي يريبني منه، ولا أشعر بالشر حتى نقهت.
فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل. وذلك قبل أن نتخذ الكُنُف، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، فأقبلت أنا وأم مسطح- وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق- وابنها (مسطح بن أثاثة) حتى فرغنا من شأننا نمشي، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً؟
فقالت يا هنتاه: ألم تسمعي ما قال؟ فقلت: وما قال؟ فأخبرني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي أن آتي أبوي- وأنا حينئذٍ أريد أن استيقن الخبر من قبلهما- فأذن لي، فأتيت أبويّ فقلت لأمي: يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت يا بنيّة: هوّني على نفسك الشأن، فوالله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة، عند رجل يحبها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله ولقد تحدّث الناس بهذا؟
قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرفأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي.
. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد- رضي الله عنهما- حين استلبث الوحي يستبشرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم من الودّ لهم، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيراً.
وأما علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله: لم يضيّق الله عليك، والنساءُ سواها كثير، وسل الجارية تخبرك، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال لها: أي بريرة: هل رأيت فيها شيئاً يريبك؟ فقالت: لا والذي بعثك بالحق نبياً، إن رأيت منها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله. قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه واستعذر من (عبد الله بن أبي بن سلول) فقال وهو على المنبر: من يعذرني من رجلٍ بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً... ولقد ذكروا لي رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي.
قالت: فقام (سعد بن معاذ) فقال يا رسول الله أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك!
فقام (سعد بن عبادة) وهو سيّد الخزرج- وكان رجلاً صالحاً ولكن أخذته الحميّة- فقال لسعد بن معاذ: كذبتَ لعمرُ الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك.
فقام (أُسَيْد بن خُضَيْر) وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل في المنافقين.
فثال الحيّان (الأوس) و(الخزرج) حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا ونزل.
وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوماً حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنت لها.
فجلست تبكي معي.
فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلس- ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل قبلها، وقد مكث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء- فتشهّد حين جلس ثم قال: أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه».
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه بقطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال!! قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله. فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال!! قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله. قالت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن، فقلت: إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثاً تحدّث الناس به، واستقرَّ في نفوسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمرٍ، واللَّهُ يعلم أني منه بريئة لتصدقُنَّني، فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلاّ أبا يوسف إذ قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا أعلم أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى فيّ كلاماً يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها.
فوالله ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من البيت، حتى أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، فسرّي عنه وهو يضحك... فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: «يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك».
فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمديه- فقلت: والله لا أقوم إليه. ولا أحمد إلا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ...} [النور: 11] الآيات العشر.
فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه- وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره- والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعدما قال لعائشة فأنزل الله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة.
..} إلى قوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فقال أبو بكر رضي الله عنه: بل والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجَّع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال: «يا زينب ما علمت وما رأيت»؟ فقالت يا رسول الله: أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيراً قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى بالورع. قالت: فطفقت أختها (حمنة) تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.
قال ابن شهاب: فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط.
رواه البخاري ومسلم وهكذا يظهر لنا خطر النفاق والمنافقين، وتآمرهم على الإسلام، وكيدهم لصاحب الرسالة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، حيث استهدفوا عرضه وكرامته، وأرادوا أن يلوّثوا سمعته الطاهرة، بالطعن في عفاف زوجه الصدّيقة عائشة رضي الله عنها... ولكنّ الله جلّ ثناؤه كشف خبثهم وتآمرهم، وبرّأ أم المؤمنين من ذلك البهتان العظيم، وجعل ذلك درساً للأجيال وعبرة لأولي البصائر، وعنوان مجد وفخار لزوجاته الطاهرات، ودليل طهر ونزاهة لبيت النبوة الكريم {أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة:
1- وصفُ المرء بالتقى والصلاح جائز إذا لم يدع ذلك إلى العُجب والخيلاء.
2- إذا حلف الإنسان على ترك فعل الخير فليكفّر عن يمينه وليفعل الخير.
3- الصفح والعفو عمن أساء من مظاهر الكمال ودلائل الإيمان.
4- قذف العفائف المحصنات من الكبائر التي توجب سخط الله وغضبه.
5- الجوارح والحواس تشهد على الإنسان يوم القيامة بما عمل في الدنيا.
6- الجزاء العادل يلقاه المرء يوم القيامة على ما اقترف من سيِّئ الأعمال.
7- اتهام زوجات الرسول الطاهرات إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدوان على الدين نفسه.
8- براءة أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها مما نسب إليها أهل الإفك والبهتان.
9- بيت النبوة بيت الطهر والعفة فلا يتصور أن تخرج منه رائحة الخنا أو الفجور.
10- السُنّة الإلهية قضت بالامتزاج الروحي فالنساء الخبيثات للرجال الخبيثين والعكس بالعكس.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)}
[5] آداب الاستئذان والزيارة:
التحليل اللفظي:
{تَسْتَأْنِسُواْ}: أي تستأذنوا، قال الزجاج: (تستأنسوا) في اللغة بمعنى تستأذنوا وكذلك هو في التفسير كما نقل عن ابن عباس.
وأصل الاستئناس: طلب الأنس بالشيء وهو سكون النفس، واطمئنان القلب وزوال الوحشة قال الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى *** وصوّت إنسان فكدت أطير
وقال بعضهم: الاستئناس هو الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً. ومنه قوله تعالى: {إني آنَسْتُ نَاراً} [طه: 10] أي أبصرت ناراً. ومعنى الآية: حتى تستعلموا أيريد أهلها أن تدخلوا أم لا؟
قال الزمخشري: هو من (الاستئناس) ضد الاستيحاش. لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش فإذا أذن له يستأنس.
قال الطبري: والصواب عندي أن (الاستئناس) استفعال من الأنس وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم، ويؤذنهم أنه داخل عليهم فيأنس إلى إذنهم ويأنسوا إلى استئذانه.
{على أَهْلِهَا}: المراد بالأهل السكان الذين يقيمون في الدار سواء كانت سكناهم بالملك، أو بالإجارة، وبالإعارة، وقد دل على هذا معنى قوله تعالى: {غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} قال الألوسي: والمراد اختصاص السكنى أي غير بيوتكم التي تسكنونها. لأنه كون الآجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل على عدم إرادة الاختصاص الملكي فلا حاجة إلى القول بأن ذلك خارج مخرج العادة.
{ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ}: الإشارة راجعة إلى الاستئذان والتسليم أي دخولكم مع الاستئذان والسلام خير لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدخول على الناس بغتة.
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: أي كي تتعظوا وتتذكروا وتعملوا بموجب تلك الآداب الرفيعة وهي مضارع حذف منه إحدى التاءين.
{أزكى لَكُمْ}: أي أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والعناد والوقوف على الأبواب فالرجوع في مثل هذه الحال أشرف وأطهر للإنسان العاقل.
{جُنَاحٌ}: أي إثم وحرج قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5].
{غَيْرَ مَسْكُونَةٍ}: المراد البيوت العامرة التي تقصد لمنافع عامة غير السكنى كالحمامات والحوانيت والبيوت التي لا تخص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات فهذه وأمثالها لا حرج في دخولها بغير إذن.
{متاع لَّكُمْ}: المتاع في اللغة يطلق على (المنفعة) أي فيها منفعة لكم كالاستظلال من الحر وحفظ الرحال والسّلع والاستحمام وغيره. ويطلق ويراد منه (الغرض والحاجة) أي فيها لكم غرض من الأغراض، أو حاجة من الحاجات.
المعنى الإجمالي:
يؤدب المولى تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالآداب الجليلة، ويدعوهم إلى التخلق بكل أدب رفيع فيامرهم بالاستئذان عند إرادة الدخول إلى بيوت الناس، وبالتلطف عند طلب الاستئذان، وبالسلام على أهل المنزل لأن ذلك مما يدعو إلى المحبة والوئام، وينهاهم عن الدخول بغير إذن لئلا تقع أعينهم على ما يسوءهم فيطلعوا على عورات الناس أو تقع على مكروه لا يحبه أهل المنزل، فإن في الاستئذان والسلام ما يدفع خطر الريبة أو القصد السيِّئ ويجعل الزائر محترماً مكرماً مستأنساً به.
وإذا لم يؤذن له فعليه بالرجوع فذلك خير له من الوقوف على الأبواب أو الإثقال على أهل المنزل فقد يكون أهل البيت في شغل شاغل عن استقبال أحد من الزائرين.
وإذا لم يكن في البيوت أحد فلا يجوز الدخول أو الاقتحام لأن البيوت حرمة، ولا يحل دخولها إلا بإذن أربابها، وربما كان أهل البيت لا يرغبون أن يطلع أحد على ما عندهم في المنزل من مال أو متاع وربما أدى الدخول إلى فقدان شيء أو ضياعة ووقعت التهمة على ذلك الإنسان.
أما البيوت التي ليس بها ساكن، أو التي فيها للإنسان منفعة أو مصلحة فلا مانع من دخولها بغير إذن. ذلك هو أدب الإسلام وتربيته الحميدة الرشيدة التي أدّب بها المؤمنين.
وجه الارتباط بين الآيات الكريمة:
الآيات التي تقدمت في صدر السورة كانت في بيان (حكم الزنى) وبيان ضرره وخطره. وبيان أنه قبيح ومحرم وأنَّ مرتكبه يستحق العذاب والنكال.
ولما كان الزنى طريقُه النظر، والخلوة، والاطلاع على العورات... وكان دخول الناس في بيوت غير بيوتهم مَظِنَّة حصول ذلك كله، أرشد الله عز وجل عباده إلى الطريقة الحكيمة التي يجب أن يتبعوها إذا أرادوا دخول هذه البيوت، حتى لا يقعوا في ذلك الشر الوبيل، والخطر الجسيم، الذي يقضي على أواصر المجتمع، ويدمر الأسر، ويشيع الفحشاء بين الناس.
وقد تحدثت الآيات السابقة عن (حادثة الإفك) التي اتهمت فيها أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها تلك المرأة العفيفة الطاهرة التي برّأها القرآن مما نسبها إليه أهل النفاق والبهتان، ولم يكن لأصحاب الإفك متكأ في رميها إلا أنها بقيت مع صفوان فيما يشبه الخلوة، لذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن دخول البيوت بغير إذن حتى لا يؤدي ذلك إلى القدح في أعراض البرآء الأطهار، ويكون المجتمع في منجاة عن ذلك الشر الخطير.
سبب النزول:
أ- روي في سبب نزول هذه الآية أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد ولا والد ولا ولد فيأتيني آت فيدخل علي فكيف أصنع؟ فنزلت الآية الكريمة: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ...} الآية.
ب- وروى ابن حاتم عن (مقاتل) أنه لما نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ...} إلخ قال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله: فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة، والمدينة، والشام، وبيت المقدس ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلِّمون وليس فيها سكان؟ فرخص سبحانه في ذلك فأنزل قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ.
..} الآية.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: تصدير الخطاب بلفظ (الإيمان) مشعر بعلو مكانة المؤمن عند الله فالمؤمن أهل للتكليف والخطاب، والكافر كالدابة والحيوان ليس بأهل للتكريم أو الخطاب وصدق الله: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] وهذا هو السر في نداء المؤمنين بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ}.
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} خارج مخرج العادة إذْ الأصل في الأصل أن يسكن في بيته الذي هو ملكه، والتنكير في قوله: {بُيُوتاً} يفيد العموم والشمول.
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} فيه معنى دقيق، فليس المراد من اللفظ مجرد الإذن وإنما المراد معرفة أنس أهل البيت بدخول الزائر عليهم هل هم راضون بدخوله أم لا؟
قال العلامة المودودي: وقد يخطئ الناس إذ يجعلون كلمة (الاستئناس) بمعنى الاستئذا فقط مع أن الكلمتين بينهما فرق لطيف لا ينبغي أن ينصرف عنه النظر، فكلمة (الاستئناس) أعم وأشمل من كلمة (الاستئذان) كما لا يخفى بأدنى تأمل والمعنى: حتى تعرفوا أنس أهل البيت بدخولكم عليهم.
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً} هذا تعبير دقيق يشير إلى معنى أدق، فربما كان في البيت صاحبه ولم يردّ على الزائر، أو لم يأذن له فيصدق على المستأذن أنه لم يجد أحداً، ولو قال (فإن لم يكن فيها أحد) لما كان هذا المنزع اللطيف، والسر الدقيق، والحاصل أن الآية تنهى عن الدخول في حالتين:
أ- في حالة الاعتذار الضمني {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً} وهي إشارة إلى عدم الإذن.
ب- في حالة الاعتذار الصريح {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} وهي تصريح بعدم الإذن صريح.
اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {فارجعوا} قال العلامة ابن كثير: قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها... أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي: إرجعْ، فأرجع وأنا مغتبط لقوله تعالى: {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ}.
اللطيفة السادسة: قال الزمخشري: فإذا نُهي الزائر عن الإلحاح لأنه يؤدي إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف، والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس.
اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} فيه وعيد شديد لأهل الريبة والنوايا الخبيثة الذين لا يقصدون إلا التطلع على عورات الناس أو غيرها من الأغراض السيئة.
حكمة التشريع:
يقول شهيد الإسلام سيد قطب تغمده الله برحمته في تفسيره (ظلال القرآن) ما نصه:
(لقد جعل الله البيوت سكنا، يفيء إليها الناس فتسْكن أرواحهم، وتطمئن نفوسهم، ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب).
والبيوتُ لا تكون كذلك إلا حين تكون حَرَماً آمناً لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس، ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان يجعل أعينهم تقع على عورات، وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات، وتهيئ الفرصة للغواية الناشئة من اللقاءات العابرة، والنظرات الطائرة، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة، تحركها الميول التي أيقطتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار، وتحولها إلى علاقات آثمة، أو إلى شهوات محرمة، تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات.
ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوماً فيدخل الزائر البيت وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد، وكان يقع أن تكون المرأة عارية أو مكشوفة العورة هي أو الرجل، وكان ذلك يؤذي ويجرح، ويَحرِم البيوت أمنَها وسكينتها، كما يعرّض النفوس من هنا وهناك للفتنة حين تقع العين على ما تثيره.
من أجل هذا أو ذاك أدَّب الله المسلمين بهذا الأدب العالي (أدب الاستئذان) على البيوت والسلام على أهلها لإيناسهم وإزالة الوحشة من نفوسهم- قبل الدخول- وعبر عن الاستئذان ب (الاستئناس) وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق فتحدث في نفوس أهل البيت أنساً به. واستعداداً لاستقباله، وهي لفتة دقيقة لطيفة لرعاية أحوال النفوس ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم.
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: هل السلام قبل الاستئذان أم بعده؟
ظاهر الآية الكريمة يدل على تقديم الاستئذان على السلام، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء، وجمهور الفقهاء على تقديم السلام على الاستئذان حتى قال النووي: الصحيح المختار تقديم التسليم على الاستئذان لحديث: «السلام قبل الكلام».
أ- استدل الجمهور بما روي أن رجلاً من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في البيت فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له: السلام عليكم أأدخل؟
ب- واستدلوا بحديث أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلِّم قال: لا يؤذن له حتى يسلِّم..
ج- واستدلوا بما روي عن (زيد بن أسلم) قال: أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي الله عنهما فجئت فقلت: أألج؟ فقال: ادخل فلما دخلت قال مرحباً يا ابن أخي، لا تقل أألج، ولكن قل: السلام عليكم، فإذا قيل: وعليك فقل أأدخل؟ فإذا قالوا: ادخل فادخل.
د- واستدلوا بما روي أن عمر رضي الله عنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام على رسول الله السلام عليكم، أيدخل عمر؟.
وفصَّل بعض العلماء المسألة فقال: إن كان القادم يرى أحداً من أهل البيت سلّم أولاً ثم استأذن في الدخول، وإن كانت عينه لا ترى أحداً قدذم الاستئذان على السلام، وهذا اختيار (الماوردي) وهو قول جيد وفيه جمع بين الأدلة كما نبه عليه (الألوسي).
ولا يشترط أن يكون الإذن صريحاً بلفظ (أألج أو أأدخل) بل يجوز بكل لفظ يشير إلى الاستئذان كالتسبيح، والتكبير، أو التنحنح فقد روى الطبراني عن أبي أيوب أنه قال: قلت يا رسول الله أرأيت قول الله: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} هذا التسليم قد عرفناه فما الاستئناس؟ قال: يتكلم الرجل بتسبيحة، وتكبيرةٍ، وتحميدةٍ، ويتنحنح فيؤذن أهل البيت.
أقول: ومثل هذا في عصرنا أن يطرق الباب أو يقرع الجرس فهذا نوع من الاستئذان مشروع لأن الدور في عصر الصحابة لم يكن لها هذه الستور والأبواب فيكفي للقادم أن يقرع الجرس ليدل على طلبه الاستئذان والله أعلم.
الحكم الثاني: كم عدد الاستئذان؟
لم توضح الآية الكريمة عدد الاستئذان، وظاهرها يدل على أن من استأذن مرة فأجيب دخل، وإلاّ رجع. ولكنّ السنة النبوية قد بيَّنت أن الاستئذان يكون ثلاثاً، لما روي عن أبي هريرة مرفوعاً: (الاستئذان ثلاث: بالأولى يستنصتون، وبالثانية يستصلحون، وبالثالثة يأذنون أو يردون).
ومما يدل على أن الاستئذان يكون ثلاثاً قصة (أبي موسى الأشعري) مع عمر بن الخطاب وتفصيل القصة كما رواها البخاري ومسلم في (الصحيحين) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت جالساً في مجلس من مجالس الأنصار فجاء أبي موسى فزعاً، فقلنا له ما أفزعك؟ فقال: أمرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت فقال: ما منعك أن تأتيني؟ فقلت قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع» فقال: لتأتينِّي على هذه البينة أو لأعاقبنك، فقال (أُبيُّ بن كعب) لا يقوم معك إلا أصغر القوم، قال أبو سعيد: وكنتُ أصغرَهم فقمتُ معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
وفي بعض الأخبار أن عمر قال لأبي موسى: إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأردت أن أثبت.
والراجح أن إكمال العدد (ثلاثاً) إنما هو حق المستأذن، وأما الواجب فإنما هو مرة وذكر (أبو حيان) أنه لا يزيد على الثلاث، إلا إن تحقَّق أن من في البيت لم يسمع.
الحكم الثالث: ما الحكمة في إيجاب الاستئذان؟
الحكمة هي التي نبه الله تعالى عليها في قوله: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} فدل بذلك على أن الذي حرم من أجله الدخول هو كون البيوت مسكونة، إذ لا يأمن من يهجم عليها بغير استئذان أن يرى عورات الناس، وما لا يحل النظر إليه، وربما كان الرجل مع امرأته في فراش واحد، فيقع نظره عليهما، وهذا بلا شك يتنافى مع الآداب الإجتماعية التي أرشد إليها الإسلام.
الحكم الرابع: هل يستأذن على المحارم؟
ومن الآداب السامية أن يستأذن الإنسان على المحارم لما روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي؟ قال: نعم، قال: إنها ليس لها خادم غير أفأستأذن عليها كما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عُريانة؟ قال الرجل: لا، قال فاستأذن عليها.
قال الفخر الرازي: واعلم أن ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز، إلا أنه أيسر، لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوها من الأعضاء، والتحقيق فيه أن المنع من الهجوم على الغير إن كان لأجل أن ذلك الغير ربما كان منكشف الأعضاء فهذا دخل فيه الكل إلا (الزوجات) و(ملك اليمين). وإن كان لأجل أنه ربما كان مشتغلاً بأمر يكره اطلاع الغير عليه وجب أن يعمّ في الكل، حتى لا يكون له أن يدخل إلاّ بإذن.
الحكم الخامس: هل الاستئذان والسلام واجبان على الداخل؟
ظاهر الآية الكريمة أنه لا بد قبل الدخول من (الاستئذان والسلام) معاً، وعليه جمهور الفقهاء غير أنهما ليسا بمرتبة واحدة، فالاستئذان واجب والسلام مستحب، وذلك لأن الاستئذان من أجل البصر لئلا يقع نظره على عورات الناس، وقد جاء في الحديث الشريف: «إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» فكان واجباً. وأما السلام فهو من أجل المحبة والمودة كما قال صلى الله عليه وسلم: «أوَلاَ أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشو السلام بينكم» فكان ذلك مندوباً، وقد أرشد إليه القرآن الكريم في مواطن عديدة فقال جل ثناؤه: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً...} [النور: 61] الآية.
الحكم السادس: كيف يقف الزائر على الباب؟
من الآداب الشرعية في الاستئذان، ألا يستقبل الزائر الباب بوجهه، بل يجعله عن يمينه أو شماله، فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أتى باب قوم، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: السلام عليكم، السلام عليكم، وذلك لأن الدور لم يكن عليها حينئذ ستور.
وروي عن (سعيد بن عبادة) قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقمت مقابل الباب فاستأذنت فأشار إلي أن تباعد، وقال: هل الاستئذان إلا من أجل النظر؟
وهذا الأدب ينبغي أن يلتزم به المسلم في عصرنا هذا فإن الدور ولو كانت مغلقة الأبواب فإن الطارق إذا استقبلها فإنه قد يقع نظره عند فتح الباب على ما لا يجوز أو ما يكره أهل البيت اطلاعه عليه.
الحكم السابع: هل يجب الاستئذان على النساء أو العميان؟
ظاهر الآية الكريمة يدل على أنه يجب الاستئذان على كل طارق سواء كان رجلاً أو امرأة، مبصراً أو أعمى، وبهذا قال جمهور العلماء وحجتهم في ذلك أن من العورات ما يدرك بالسمع ففي دخول الأعمى على أهل بيت بغير إذنهم ما يؤذيهم فقد يستمع الداخل إلى ما يجري من الحديث بين الرجل وزوجته فأما قوله عليه السلام:
«إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» فذلك محمول على الغالب، ولا يقصد منه الحصر.
قال الزمخشري في (الكشاف): إنما شرع الاستئذان لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولم يشرع لئلا يطَّلع المرء على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط.
والحكمة التي شرع من أجلها الاستئذان متحققة في الرجال والنساء معاً ولهذا قال العلماء أن التعبير باسم الموصول {يا أيها الذين} فيه تغليب الرجال على النساء كما هو المعهود في الأوامر والنواهي القرآنية المبدوءة بمثل هذا النداء، أو المراد بالخطاب الوصف ويكون معنى الآية: (يا من اتصفتم بالإيمان) فيدخل فيه الرجال والنساء على السواء. ومما يدل على أن المرأة تستأذن كما تستأذن الرجل ما روي عن (أم إياس) قالت: كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي الله عنها، فقلت: ندخل؟ فقالت: لا، فقالت واحدة: السلام عليكم؟ قالت: ادخلوا، ثم قالت: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا}.. الآية. فدل هذا على أن المرأة تستأذن كما يستأذن الرجل.
الحكم الثامن: ما هي الحالات التي يباح فيها الدخول بدون إذن؟
ظاهر الآية يدل على النهي عن دخول البيوت بغير إذن في جميع الأزمان والأحوال ولكن يستثنى منه الحالات التي تقضي بها الضرورة وهي حالات اضطرارية تبيح الدخول بغير إذن وذلك إذا عَرَض أمر في دار من حريق، أو هجوم سارق، أو ظهور منكر فاحش، فإنَّ لمن يعلم ذلك أن يدخلها بغير إذن أصحابها كما نبه على ذلك الفخر الرازي في تفسيره الشهير.
الحكم التاسع: هل يجب الاستئذان على الطفل الصغير؟
أحكام الاستئذان خاصة بالبالغين من الرجال والنساء، وأما الأطفال فإنهم غير مكلفين بهذه التكاليف الشرعية، وليس هناك محظور يخشى من جانبهم لأنهم لا يدركون أمور العورة، ولا يعرفون العلاقات الجنسية فيجوز لهم الدخول بدون إذن إلا إذا بلغوا مبلغ الرجال لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 59].
وهناك أوقات ثلاثة يجب على الأطفال الاستئذان فيها وهي: (وقت الفجر)، و(وقت الظهيرة)، و(وقت العشاء) كما سيأتي إن شاء الله.
الحكم العاشر: لو اطلع إنسان على دار غيره بغير إذنه فما الحكم؟
اختلف الفقهاء في مسألة هامة تتعلق بالنظر وهي: إذا رأى أهل الدار أحداً يطلع عليهم من ثقب الباب فطعن أحدهم عينه فقلعها، فهل يجب القصاص؟ وما الحكم؟
1- ذهب الإمامان (الشافعي وأحمد) إلى أنه لو فقئت عينه فهي هدر ولا قصاص.
2- وذهب مالك وأبو حنيفة إلى القول بأنها جناية يجب فيها الأرش أو القصاص.
دليل الشافعية والحنابلة:
أ- حديث أبي هريرة (من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه).
ب- حديث سهل بن سعد قال: اطَّلع رجل في حُجْرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي مِدْرَى (آلة رفيعة من الحديد) يحك بها رأسه فقال: «لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر».
دليل المالكية والأحناف:
أ- عموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين...} [المائدة: 45] فمن أقدم على هذا النحو كان جانباً، وعليه القصاص، إن كان عامداً، والأرش إن كان مخطئاً.
ب- واستدلوا بإجماع العلماء على أن من دخل داراً بغير إذن أهلها فاعتدى عليه بعض أهلها بقلع عينه فإن ذلك يعتبر جناية تستوجب القصاص.
قالوا: فإذا كان دخول الدار واقتحامها على أهلها مع النظر إلى ما فيها غير مبيح لقلع عين ذلك الداخل، فلا يكون النظر وحده من ثقب الباب مبيحاً لقلع عينه من باب أولى.
ج- وتأولوا الحديث الذي استدل به (الشافعية والحنابلة) على أنّ من اطَّلع في دار قوم ونظر إلى حُرَمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع وقاوم وقاتل فقلعت عينه بسبب المقاومة والمدافعة فهي هدر، لأنه ظالم معتد في هذه الحالة.
قال أبو بكر الرازي:
والفقهاء على خلاف ظاهر الحديث وهذا من أحاديث أبي هريرة التي تُرَدّ لمخالفتها الأصول مثل ما روي أن ابن الزنى لا يدخل الجنة، ومن غسّل ميتاً فليغتسل ومن حمله فليتوضأ.. ثم قال: ولا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامناً وعليه القصاص... إلخ.
قال الفخر الرازي من فقهاء الشافعية وصاحب التفسر المسمى (التفسير الكبير):
واعلم أن التمسك بقوله تعالى: {والعين بالعين} [المائدة: 45] في هذه المسالة ضعيف.
وأما قوله: إنه لو دخل لم يجز فقأ عينه فكذا إذا نظر. قلنا: الفرق بين الأمرين ظاهر، لأنه إذا دخل علم القوم دخوله عليهم فاحترزوا عنه وتستَّروا، فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين بذلك فيطَّلع على ما لا يجوز الاطلاع عليه، فلا يبعد في حكم الشرع أن يبالغ هاهنا في الزجر حسماً لباب هذه المفسدة.
أقول: ولعلّ ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة أرجح، لقوة أدلتهم والله تعالى أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة:
أولاً- وجوب الاستئذان عند دخول ببيت الغير.
ثانياً- حرمة الدخول إذا لم يكن في البيت أحد.
ثالثاً- وجوب الرجوع إذا لم يؤذن للداخل.
رابعاً- السلام مشروع للزائر لأنه من شعائر الإسلام.
خامساً- لا يجوز لإنسان أن يطلع على عورات الناس.
سادساً- البيوت إذا لم تكن مسكونة فلا حرج من دخولها.
سابعاً: على المسلم أن يرعى حرمة أخيه المسلم فلا يؤذيه في نفسه أو ماله.
ثامناً- في هذه الآداب التي شرعها الله طهارة للمجتمع والأفراد.


{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}
[6] آيات الحجاب والنظر:
التحليل اللفظي:
{يَغُضُّواْ}: غضّ بصره بمعنى خفضه ونكّسه قال جرير:
فغضّ الطرف إنك من نمير *** فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا
وأصل الغض: إطباق الجفن على الجفن بحيث تمنع الرؤية، والمراد به في الآية: كف النظر عما لا يحل إليه بخفضه إلى الأرض، أو بصرفه إلى جهة أخرى وعدم النظر بملء العين، قال عنترة:
وأغضُّ طرفي إن بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها
{وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ}: قال بعض المفسرين: المراد سترها من النظر إليها أي النظر إلى العورات.. وقال آخرون: المراد حفظها من الزنى، والصحيح ما ذكره القرطبي أن الجميع مراد لأن اللفظ عام، فيطلب سترها عن الأبصار، وحفظها من الزنى، قال تعالى: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 5- 6] وفي الحديث: «إحفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال: إن استطعت ألاّ يراها فافعل: قلت: فالرجل يكون خالياً؟ فقال: والله أحق أن يستحيا منه».
{أزكى لَهُمْ}: أي أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم، مأخوذ من الزكاة بمعنى الطهارة والنقاء النفسي، قال تعالى: {وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} [فاطر: 18] وفي الحديث: «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه».
{خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}: الخبرة العلم القوي الذي يصل إلى بواطن الأشياء، ويكشف دخائلها فالله خبير بما يصنعون، عليم علماً تاماً بظواهر الأعمال وبواطنها لا تخفى عليه خافية وهو وعيد شديد لمن يخالف أمر الله أو يعصيه في ارتكاب المحرمات.
{زِينَتَهُنَّ}: الزينة: ما تتزين به المرأة عادة من الثياب والحليّ وغيرها مما يعبر عنه في زماننا بلفظ (التجميل): قال الشاعر:
يأخذ زينتهن أحسن ما ترى *** وإذا عَطِلْنَ فهنّ خير عواطل
قال العلامة القرطبي: الزينة على قسمين: خلقية، ومكتسبة... فالخلقية: وجهُهَا فإنه أصل الزينة وجمال الخِلقة ومعنى الحيوانية لما فيه من المنافع، وأما الزينة المكتسبة: فهي ما تحاول المرأة في تحسين خلقتها كالثياب، والحلي، والكحل، والخضاب، ومنه قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31].
{إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: قال بعضهم: المراد بقوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي ما دعت الحاجة إلى ظهوره كالثياب والخضاب والكحل والخاتم مما لا يمكن إخفاؤه وقيل: بل المراد ما ظهر منها بدون قصد ولا تعمد، وقيل: المراد به الوجه والكفان وسنبين ذلك بالتفصيل عند ذكر الأحكام.
{بِخُمُرِهِنَّ}: قال ابن كثير: الخمُرُ: جمع خمار، وهو ما يخمّر به أي يغطى به الرأس وهي التي تسميها الناس (المقانع) وفي (لسان العرب): الخمر جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها وكل مغطى مخمّر ومنه حديث (خمّروا آنيتكم) أي غطوها وخمّرت المرأة رأسها غطته.
ويسمَّى الخمار (النصيف).
قال الشاعر:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولته واتقتنا باليد
ويجمع الخمار على (خُمُر) جمع كثرة مثل: كتاب، وكُتُب قال الشاعر:
كرؤوس قطعت فيها الخُمُر ***
ويجمع على أخمرة جمع قلة أفاده (أبو حيان).
{جُيُوبِهِنَّ}: يعني النحور والصدور، فالمراد بضرب النساء بخمرهن على جيوبهن أن يغطين رؤوسهنَّ وأعناقهنَّ وصدورهن بكل ما فيها من زينة وحلي. والجيوب جمع (جيب) وهو الصدر وأصله الفتحة التي تكون في طوق القميص، قال القرطبي: والجيب هو موضع القطع من الدرع والقميص وهو من (الجَوْب) بمعنى القطع وقد ترجم البخاري رحمه الله (باب جيب القميص من عند الصدر وغيره).
قال الألوسي: وأما إطلاق الجيب على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها كما هو الشائع بيننا اليوم فليس من كلام العرب كما ذكره (ابن تيمية) ولكنه ليس بخطأ بحسب المعنى، والمراد بالآية كما رواه (ابن أبي حاتم): أمرهن الله بستر نحورهن وصدورهن بخمرهن لئلا يرى منها شيء.
{بُعُولَتِهِنَّ}: قال ابن عباس: لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن.
والبعولة جمع بعل بمعنى الزوج، قال تعالى: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72]. وفي القرطبي: البعل هو الزوج والسيد في كلام العرب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: «إذا ولدت الأمة بعلها» يعني سيدها إشارة إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات.
{مَلَكَتْ أيمانهن}: يعني الإماء والجواري، وقال بعضهم المراد: العبيد والإماء ذكوراً وإناثاً وروي عن (سعيد بن المسيب) أنه قال: لا تغرنكم هذه الآية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} إنما عنى بها (الإماء) ولم يعن بها (العبيد) وهو الصحيح.
{الإربة}: الحاجة، والأرَبُ، والإرْبةُ والإربُ ومعناه الحاجة والجمع مآرب قال تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] وقال طرفة:
إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا *** تقدَّم يوماً ثمَّ ضاعت مآربه
والمراد بقوله تعالى: {غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال} أي غير أولي الميل والشهوة أو الحاجة إلى النساء كالبُلْه والحمقى والمغفلين الذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً.
{الطفل}: الصغير الذي لم يبلغ الحلم قال الشاعر:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطهم
قال الراغب: كلمة طفل تقع على الجمع كما تقع على المفرد كما تقع على المفرد فهي مثل كلمة (ضيف) والدليل أن المراد به الجمع {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ} حيث جاء بواو الجماعة.
{لَمْ يَظْهَرُواْ}: أي لم يطَّلعوا يقال: ظهر على الشيء أي اطَّلع عليه ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف: 20] ومعنى الآية أن الأطفال الذين لا يعرفون الشهوة ولا يدركون معاني الجنس لصغرهم لا حرج من إبداء الزينة أمامهم.
المعنى الإجمالي:
قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويكفوها عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم، ولا ينظروا إلا إلى ما أبيح لهم النظر إليه، وأن يحفظوا فروجهم عن الزنى ويستروا عوراتهم حتى لا يراها أحد، فإن ذلك أطهر لقلوبهم من دنس الريبة، وأنقى لها وأحفظ من الوقوع في الفجور، فالنظرة تزرع في القلب الشهوة، ورب شهوة أورثت حزناً طويلاً، فإن وقع البصر على شيء من المحرمات من غير قصد، فليصرفوا أبصارهم عنه سريعاً ولا يديموا النظر، ولا يرددوه إلى النساء، ولا ينظروا بملء أعينهم فإن الله رقيب عليهم مطلع على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور} [غافر: 19].
ثم أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج وزادهنّ في التكليف على الرجال بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فإن ذلك أولى بهن وأجمل إلا إذا ظهرت هذه الزينة بدون قصد ولا نية سيئة فلا إثم عليهن فالله غفور رحيم.
وقد كانت المرأة في الجاهلية كما هي اليوم- في الجاهلية الحديثة- تمر بين الرجال مكشوفة الصدر، بادية النحر، حاسرة الذراعين، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب شعرها لتغري الرجال، وكنَّ يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى صدورُهنّ مكشوفة عارية فأمرت المؤمنات بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار، وأمرن بألاّ يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال فيطمع الذي في قلبه مرض.
ثم ختم تعالى تلك الأوامر والنواهي بالأمر (للرجال والنساء) جميعاً بالإنابة والرجوع إلى الله لينالوا درجة السعداء، ويكونوا عند الله من الفائزين الأبرار.
سبب النزول:
أولاً: أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: مر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط (صُدم به) فشق أنفه، فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه أمري؟ فأتاه فقصّ عليه قصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (هذا عقوبة ذنبك) وأنزل الله: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ...} الآية.
ثانياً: وروى ابن كثير رحمه الله، عن مقاتل بن حيان، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: بلغنا- والله أعلم- أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدّث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير مؤتزرات فيبدو ما في أرجلهن يعني الخلاخل، ويبدوا صدروهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا؟ فأنزل الله في ذلك: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...} الآية.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: السر في تقديم غض البصر على حفظ الفروج هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور وهو مقدمة للوقوع في المخاطر كما قال الحماسي:
وكنتَ إذا أرسلت طرفك رائداً *** لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيتَ الذي لا كلّه أنت قادرٌ *** عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ولأنّ البلوى فيه أشد وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه وهو الباب الأكبر الذي يوصل إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته. ولله در شوقي:
نظرة فابتسامة فسلام *** فكلام فموعد فلقاء
وقد قال أحد الأدباء:
وما الحب إلا نظرة إثر نظرةٍ *** تزيد نمواً إن تزده لَجَاجا
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} المراد غض البصر عما حرم الله، لا غضّ البصر عن كل شيء فحذف ذلك اكتفاء بفهم المخاطبين وهو من باب (الإيجاز بالحذف).
اللطيفة الثالثة: قال العلامة الزمخشري: فإن قلت كيف دخلت (من) التي هي للتبعيض في (غضّ البصر) دون (حفظ الفرج)؟ قلت: لأن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثُديِّهن، وأما أمر الفرج فمضيّق وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثني فيه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه.
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {أزكى لَهُمْ} أفعل التفضيل هنا ليس على بابه وإنما هو (للمبالغة) أي أن غض البصر وحفظ الفرج طهرة للمؤمن من دنس الرذائل أو نقول (المفاضلة) على سبيل الفرض والتقدير.
اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} المراد بالزينة مواقعها من باب (اطلاق اسم الحال على المحل) كقوله تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] المراد بها الجنة لأنها مكان الرحمة وإذا نهي عن إبداء الزينة فالنهي عن إبداء أماكنها من الجسم يكون من باب أولى.
قال الزمخشري: وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر فإنه ما نهى عن الزينة إلا لملابستها تلك المواقع فكان إبداء المواقع نفسها متمكناً في الحظر ثابت القدم في الحرمة.
اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} في لفظ الضرب (مبالغة) في الصيانة والتستر وقد عدى اللفظ ب (على) لأنه ضُمِّن معنى الإلقاء ويكون المراد أن تسدل وتلقي بالخمار على صدرها لئلا يبدوا شيء من النحر والصدر.
اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ} قال أبو السعود: مفعول الأمر أمر آخر قد حذف تعويلاً على دلالة جوابه عليه أي قل لهم غضوا يغضوا من أبصارهم وفي هذا التعبير إشارة إلى أن المؤمن يسارع إلى تنفيذ أمر الله فهو لا يحتاج إلا إلى تذكير.
اللطيفة الثامنة: قال بعض العلماء: كما يكون التلذُّذ بالنظر يكون بالسمع أيضاً وقد قيل (والأذن تعشق قبل العين أحياناً) وهذا هو السر في نهي المرأة عن الضرب برجلها على الأرض حتى لا يسمع صوت الخلخال فتتحرك شهوة الرجال.
وقد دل على أن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ في الزجر. وعلى أن كل ما يحرك الشهوة أو يثيرها منهي عنه، كالتعطر، والتطيب، والتبختر في المشية. والتلاين في الكلام {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] وقيل: إذا نهي عن استماع صوت حليهن، فعن استماع صوتهن بالطريق الأولى. وهو استدلال لطيف.
اللطيفة التاسعة: قوله تعالى: {وتوبوا إِلَى الله} هو من باب (الالتفات) وتلوين الخطاب فقد كان الكلام في صدر الآية موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم ثم صرف عن الرسول إلى الجميع بطريق (الالتفات).
اللطيفة العاشرة: قال الإمام (ابن القيم) رحمه الله: في غض البصر فوائد عديدة أحدها: امتثال أمر الله الذي هو غاية السعادة. ثانيها: أنه يمنع وصول أثر السهم لمسموم. ثالثها: أنه يقوي القلب ويفرحه. رابعها: أنه يورث في القلب أنساً في الله واجتماعاً عليه. خامسها: أنه يكسب القلب نوراً. سادسها: أنه يورث الفراسة الصادقة. سابعها: أنه يسد على الشيطان مداخله ثامنها: أنَّ بين العين والقلب منفذاً يوجب انفعال أحدهما بالآخر.
وقد أحسن من قال:
قالوا: جُننتَ بمن تهوى فقلت لهم *** العشقُ أعظم ممَّا بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهرّ صاحبه *** وإنّما يُصرع المجنون في الحين
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: ما هو حكم النظر إلى الأجنبيات؟
حَرَّمت الشريعة الإسلامية النظر إلى الأجنبيات فلا يحل لرجل أن ينظر إلى امرأة غير زوجته أو محارمه من النساء. أما نظرة الفجأة فلا إثم فيها ولا مؤاخذة لأنها خارجة عن إرادة الإنسان، فلم يكلفنا الله جل ثناؤه ما لا نطيق ولم يأمرنا أن نعصب أعيننا إذا مشينا في الطريق، فالنظرة إذا لم تكن بقصد لا مؤاخذة فيها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية» وعن جرير بن عبد الله البجلي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري. والنظرة المفاجئة إنما تكون في أول وهلة ولا يحل لأحد إذا نظر إلى امرأة نظرة مفاجئة وأحس منها اللذة والاجتلاب أن يعود إلى النظرة مرة ثانية فإنْ ذلك مدعاة إلى الفتنة وطريق الفاحشة وقد عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بزنى العين؛ فقد ورد في (الصحيحين): «كُتِبَ على ابن آدم حظُه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر وزنى اللسان النطق، وزنى الأذنيين الاستماع، وزنى اليدين البطش، وزنى الرجلين الخُطى، والنفس تمَنَّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه».
والمؤمن يؤجر على غض البصر لأنه كف عن المحارم وقد قال صلى الله عليه وسلم:
«ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها». وعدَّه صلى الله عليه وسلم من حقوق الطريق ففي حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس على الطرقات. فقالوا يا رسول الله: ما لنا من مجالسنا بدٌّ نتحدث فيها، قال: غضُّ البصر، وكف الأذى ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
الحكم الثاني: ما هو حد العورة بالنسبة للرجل والمرأة؟
أشارة الآية الكريمة: {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} إلى وجوب ستر العورة فإن حفظ الفرج كما يشمل حفظه عن الزنى، يشمل ستره عن النظر، يشمل ستره عن النظر، كما بيناه فيما سبق وقد اتفق الفقهاء على حرمة كشف العورة ولكنهم اختلفوا في حدودها وسنوضح ذلك بالتفصيل إن شاء الله مع أدلة كل فريق فنقول ومن الله نستمد العون:
1- عورة الرجل مع الرجل.
2- عورة المرأة مع المرأة.
3- عورة الرجل مع المرأة وبالعكس.
أما عورة الرجل مع الرجل: فهي من (السرة إلى الركبة) فلا يحل للرجل أن ينظر إلى عورة الرجل فيما بين السرة والركبة وما عدا ذلك فيجوز له النظر إليه. وقد قال النبي: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة». وجمهور الفقهاء على أن عورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة كما صحّ في الأحاديث الكثيرة، وقال مالك رحمه الله: الفخذ ليس بعورة: ومما يدل لقول الجمهور ما روي عن (جرهد الأسلمي) وهو من أصحاب الصفة أنه قال: «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا وفخذي منكشفة فقال: أما علمت أن الفخذ عورة».
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «لا تبرز فخذك» وفي رواية: «لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» بل إنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يتعرى المرء ويكشف عورته حتى إذا لم يكن معه غيره فقال: «إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يُفْضي الرجل إلى أهله».
وأما عورة المرأة مع المرأة: فهي كعورة الرجل مع الرجل أي من (السرة إلى الركبة) ويجوز النظر إلى ما سوى ذلك ما عدا المرأة الذمية أو الكافرة فلها حكم خاص سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما عورة الرجل بالنسبة للمرأة: ففيه تفصيل فإن كان من (المحارم) ك (الأب والأخ والعم والخال) فعورته من السرة إلى الركبة. وإن كان (أجنبياً) فكذلك عورته من السرة إلى الركبة. وقيل جميع بدن الرجل عورة فلا يجوز أن تنظر إليه المرأة وكما يحرم نظرة إليها يحرم نظرها إليه والأول أصح، وأما إذا كان (زوجاً) فليس هناك عورة مطلقاً لقوله تعالى:
{إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6].
وأما عورة المرأة بالنسبة للرجل: فجميع بدنها عورة على الصحيح وهو مذهب (الشافعية والحنابلة) وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على ذلك فقال: (وكل شيء من المرأة عورة حتى الظفر)..
وذهب (مالك وأبو حنيفة) إلى أن بدن المرأة كله عورة ما عدا (الوجه والكفين) ولكل أدلة سنوضحها بإيجاز إن شاء الله تعالى.
أدلة المالكية والأحناف:
استدل المالكية والأحناف على أن (الوجه والكفين) ليسا بعورة بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فقد استثنت الآية ما ظهر منها أي ما دعت الحاجة إلى كشفه وإظهاره وهو الوجه والكفان وقد نقل هذا عن بعض الصحابة والتابعين، فقد قال (سعيد بن جبير) في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الوجه والكف، وقال (عطاء): الكفان والوجه وروي مثله عن الضحاك.
ثانياً: واستدلوا بحديث عائشة ونصه: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: «يا أسماء إنَّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه.
ثالثاً: وقالوا: مما يدل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة أن المرأة تكشف وجهها وكفيها في صلاتها وتكشفهما أيضاً في الإحرام فلو كانا من العورة لما أبيح لها كشفهما لأن ستر العورة واجب لا تصح صلاة الإنسان إذا كان مكشوف العورة.
أدلة الشافعية والحنابلة:
استدل الشافعية والحنابلة على أنّ الوجه والكفين عورة بالكتاب والسنة والمعقول:
أولاً: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} فقد حرمت الآية الكريمة إبداء الزينة، والزينةُ على قسمين: خلقية، ومكتسبة، والوجه من الزينة الخلقية بل هو أصل الجمال ومصدر الفتنة والإغراء وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها كالثياب والحلي والكحل والخضاب.. والآية الكريمة منعت المرأة من إبداء الزينة مطلقاً، وحرمت عليها أن تكشف شيئاً من أعضائها أمام الرجال أو تظهر زينتها أمامهم وتأولوا قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أن المراد ما ظهر بدون قصد ولا عمد مثل أن يكشف الريح عن نحرها أو ساقها أي شيء من جسدها، ويصبح معنى الآية على هذا التأويل (ولا يبدين زينتهن أبداً وهنّ مؤاخذاتٍ على إبداء زينتهن إلا ما ظهر منها بنفسه وانكشف بغير قصد ولا عمد، فلسن مؤاخذاتٍ عليه فيكون الوجه والكف من الزينة التي يحرم إبذاؤها).
ثانياً: وأما السنة فما ورد من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على حرمة النظر منها:
أ- حديث جرير بن عبد الله سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: «اصرف نظرك».
ب- حديث علي: «يا علي لا تُتْبع النظرةَ النظرةَ، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة».
ج- حديث الخثعمية الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً فجاءته امرأة من خثعم تستفيته فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر...» الحديث في حجة الوداع.
فجميع هذه النصوص تفيد حرمة النظر إلى الأجنبية، ولا شك أن الوجه مما لا يجوز النظر إليه فهو إذاً عورة.
د- واستدلوا بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] فإن الآية صريحة في عدم جواز النظر. والآية وإن كانت قد نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ الحكم يتناول غيرهن بطريق القياس عليهن، والعلة هي أن المرأة كلها عورة.
وأما المعقول: فهو أن المرأة لا يجوز النظر إليها خشية الفتنة، والفتنةُ في الوجه تكون أعظم من الفتنة بالقدم والشعر والساق.
فإذا كانت حرمة النظر إلى الشعر والساق بالاتفاق فحرمة النظر إلى الوجه تكون من باب أولى باعتبار أنه أصل الجمال، ومصدر الفتنة، ومكمن الخطر وقد قال الشاعر:
كلُّ الحوادث مبداها من النظر *** ومعظمُ النار من مستصغر الشرر
أقول: الآية الكريمة قد عرفتَ تأويلها على رأي (الشافعية والحنابلة) فلم يعد فيها دليل على أن الوجه ليس بعورة. وأما حديث أسماء (إن المرأة إذا بلغت المحيض...) فهو حديث منقطع الإسناد وفي بعض رواته ضعف وفيه كلام وهو في (سنن أبي داود)، قال أبو داود: هذا مرسل خالد بن دُرَيْك لم يدرك عائشة وفي إسناده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري، نزيل دمشق مولى ابن نصر وقد تكلم فيه غير واحد انتهى.
فإذا كان هذا كلام (أبي داود) فيه ولم يروه غيره فكيف يصلح للاحتجاج وعلى فرض صحته فإنه يحتمل أنه كان قبل نزول آية الحجاب ثم نسخ بآية الحجاب، أو أنه منحمول ما إذا كان النظر إلأى لاوجه والكفين لعذر كالخاطب، والشاهد، والقاضي.
قال ابن الجوزي رحمه الله: ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، فإن كان لعذر مثل أ ن يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها فإنه ينظر في الحالتين إلى وجهها خاصة، فأما النظر إليها لغير عذر فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها، وسواءٌ في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن.
فإن قيل: فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها؟ فالجواب: أن في تغطيته مشقة فعفى عنه.
أقول: الأئمة الذين قالوا بأن (الوجه والكفين) ليسا بعورة اشترطوا بألا يكون عليهما شيء من الزينة وألا يكون هناك فتنة أما ما يضعه النساء في زماننا من الأصباغ والمساحيق على وجوههن وأكفهن بقصد التجميل ويظهرن به أمام الرجال في الطرقات فلا شك في تحريمه عند جميع الأئمة، ثم إن قول بعضهم: أن الوجه والكفين ليسا بعورة ليس معناه أنه يجب كشفهما أو أنه سنة وسترهما بدعة فإن ذلك ما لا يقول به مسلم وإنما معناه أنه لا حرج في كشفهما عند الضرورة، وبشرط أمن الفتنة.
أما في مثل هذا الزمان الذي كثر فيه أعوان الشيطان، وانتشر فيه الفسق والفجور، فلا يقول أحد بجواز كشفه، لا من العلماء، ولا من العقلاء، إذ من يرى هذا الداء والوباء الذي فشى في الأمة وخاصة بين النساء بتقليدهن لنساء الأجانب، فإنه يقطع بحرمة كشف الوجه لأن الفتنة مؤكدة والفساد محقق ودعاء السوء منتشرون، ولا نجد المجتمع الراقي المهذب الذي يتمسك بالآداب الفاضلة ويستمع لمثل قوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إصرف بصرك» فالاحتياط في مثل هذا العصر والزمان واجب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الحكم الثالث: ما هي الزينة التي يحرم إبداؤها:
دلت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} على حرمة إبداء المرأة زينتها أمام الأجانب خشية الافتتان، والزينة في الأصل اسم لكل ما تتزين به المرأة وتتجمل من أنواع الثياب والحلي والخضاب وغيرها ثم قد تطلق على ما هو أعم وأشمل من أعضاء البدن.. والزينةُ على أربعة أنواع: (خلقية، ومكتسبة، وظاهرة، وباطنة) فمن الزينة ما يقع على محاسن الخلقة التي خلقها الله تعالى كجمال البشرة، واعتدال القامة، زسعة العيون كما قال الشاعر:
إن العيون التي في طرفها حور *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وأنكر بعضهم وقوع اسم الزينة على الخِلْقة لأنه لا يقال في الخِلْقة إنها من زينتها وإنما يقال فيما تكتسبه من كحل وخضاب وغيره، والقرب أن الخلقة داخلة في الزينة فإن الوجه أصل الزينة وجمال الخلقة وبه تعرف المليحة من القبيحة وقد قال الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} فإن ضرب الخمار وسدله على الوجه والصدر إنما هو لمنع هذه الأعضاء فدل على أن المراد بالزينة ما يعم الخلقة... فكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقتهن بأن أوجب سترها بالخمار... وأما الذين حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فقالوا: إنه سبحانه ذكر الزينة، ومن المعلوم أنه لا يراد بها الزينة نفسها المنفصلة عن أعضاء المرأة فإن الحُليَّ والثياب والقرط والقلادة لا يحرم النظر إليها إذا كانت المرأة غير متزينة فلما حرم الله سبحانه النظر إليها حال اتصالها ببدن الخلقية إلا أنهم متفقون على حرمة النظر إلى بدن المرأة وأعضائها فكان إبداء مواقع الزينة ومواضعها من الجسم منهياً عنه من باب أولى.
وأما الزينة الظاهرة فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: ظاهر الزينة الثياب.
وقال مجاهد: الكحل والخاتم والخضاب. وقال سعيد بن جبير: الوجه والكفان وقد عرفت ما فيه من الأقوال للفقهاء. قال بان عطية: (ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية، أن المرأة مأمورة بألا تبدي شيئاً وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ووقع الاستثناء- فيما يظهر- بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك ف {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه).
وأما الزينةُ الباطنة فلا يحل إبداؤها إلا لمن سمَّاهم الله تعالى في هذه الآية: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية وهم الزوج والمحارم من الرجال كما سنذكره قريباً.. وقد كان نساء الجاهلية يشددن خمرهن من خلفهن فتنكشف نحورهن وصدروهن فأمرت المسلمات أن يشددنها من الأمام ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن وما يحيط بالرأس من شعر وزينة من الحلي في الأذن والقلائد في الأعناق وذلك قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} الآية.
الحكم الرابع: من هم المحارم الذين تبدي المرأة أمامهم زينتها؟
استثنى القرآن الكريم من الرجال الذين منعت أن تكشف المرأة أمامهم زينتها (الخفية) أصنافاً هم جميعاً من (المحارم) ما عدا الأزواج.
والعلة في ذلك هي الضرورة الداعية إلى المداخلة والمخالطة والمعاشرة حيث يكثر الدخول عليهن والنظر إليهن بسبب القرابة، والفتنةُ مأمونة من جهتهم وهم كالآتي:
أولاً: البعولة (الأزواج) فهؤلاء يباح لهم النظر إلى جميع البدن والاستمتاع بالزوجة بكل أنواعه الحلال.
قال القرطبي: (فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محلٍ من بدنها حلالٌ له لذة ونظراً ولهذا المعنى بدأ بالبعولة).
ثانياً: الآباء وكذا الأجداد سواء كانوا من جهة الأب أو الأم لقوله تعالى: {أَوْ آبَآئِهِنَّ}.
ثالثاً: آباء الأزواج لقوله تعالى: {أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ}.
رابعاً: أبناؤهن وأبناء أزواجهن، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن نزلوا لقوله تعالى: {أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ}.
خامساً: الإخوة مطلقاً سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم لقوله تعالى: {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ}.
سادساً: أبناء الإخوة والأخوات كذلك لأنهم في حكم الإخوة لقوله تعالى: {أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} وهؤلاء كلهم من المحارم.
تنبيه: لم تذكر الآية (الأعمام، والأخوال) وهم من المحارم كما لم تذكر المحارم من الرضاع، والفقهاء مجمعون على أن حكم هؤلاء كحكم سائر المحارم المذكورين في الآية... أما عدم ذكر الأعمام والأخوال فالسر في ذلك أنهم بمنزلة الآباء فأغنى ذكرهم عن ذكر الأعمام والأخوال وكثيراً ما يطلق الأب على العم قال تعالى: {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق}
[البقرة: 133] وإسماعيل عم يعقوب.. وأما المحارم من الرضاع فعدم ذكرها للاكتفاء ببيان السنة المطهرة (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
وأما الأنواع الباقية التي استثنتهم الآية الكريمة فهم (النساء، المماليك، التابعين غير أولي الأربة، الأطفال) وسنوضح كل نوع من هذه الأنواع مع بيان ما يتعلق بها من أحكام.
الحكم الخامس: هل يجوز للمسلمة أن تظهر أمام الكافرة؟
اختلف الفقهاء في المراد من قوله تعالى: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} فقال بعضهم: المراد بهن (المسلمات) اللاتي هنَّ على دينهن وهذا قول أكثر السلف.
قال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} يعني المسلمات ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئاً من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمَةً لها.. وكره بعضهم أن تقبّل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها وكتب عمر رضي الله عنه إلى (أبي عبيدة بن الجراح) يقول: (إنه بلغني أن نساء أهل الذميَّة عِرْيَةَ المسلمة فقام عند ذلك أبو عبيدة وابتهل) وقال: (أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر، لا تريد إلا أن تبيّضَ وجهها فسوّد الله وجهها يوم تبيض الوجوه).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية لئلا تصفها لزوجها).. وقال بعضهم المراد بقوله تعالى: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} جميع النساء فيدخل في ذلك المسلمة والكافرة.
قال الألوسي: وذهب الفخر الرازي إلى أنها كالمسلمة فقال: والمذهب أنها كالمسلمة والمراد بنسائهن جميع النساء، وقولُ السلف محمول على الاستحباب ثم قال: وهذا القول أرفق بالناس اليوم فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الذميات.
وقال ابن العربي: (والصحيح عندي أن ذلك جائز لجميع النساء. وإنما جاء بالضمير للإتباع فإنها آية الضمائر إذ فهيا خمسة وعشرون ضميراً لم يَرَوْا في القرآن لها نظيراً فجاء هذا للإتباع).
وقال الأستاذ المودودي: والذي يجدر بالذكر في هذا المقام أن الله تعالى لم يقل (أو النساء) ولو أنه قال كذلك لحل للمرأة المسلمة أن تكشف عورتها وتظهر زينتها لكل نوع من النساء من المسلمات، والكافرات، والصالحات والفاسقات ولكنه تعالى جاء بكلمة {نِسَآئِهِنَّ} فمعناها أنه حدّ حرية المرأة المسلمة في إظهار زينتها إلى (دائرة خاصة)، وأما ما هو المراد بهذه الدائرة الخاصة؟ ففيه خلاف بين الفقهاء والمفسرين؟
تقول طائفة: إن المراد بها النساء المسلمات فقط، وهذا ما رآه ابن عباس ومجاهد وابن جريج في هذه الآية واستدلوا بما كتبه عمر لأبي عبيدة بن الجراح.
وتقول طائفة أخرى: إن المراد (بنسائهن) جميع النساء وهذا هو أصح المذاهب عند الفخر الرازي. إلا أننا لا نكاد نفهم لماذا خص النساء بالإضافة وقال (نسائهن).
وتقول طائفة ثالثة: إن المراد (بنسائهن) النساء المختصات بهن بالصحبة والخدمة والتعارف سواء أكن مسلمات أو غير مسلمات وأن الغرض من الآية أن تخرج من دائرة النساء (الأجنبيات) اللاتي لا يعرف شيء عن أخلاقهن وآدابهن وعاداتهن فليست العبرة (بالاختلاف الديني)، بل هي (بالاختلاف الخلقي) فللنساء المسلمات.
أن يظهرن زينتهن بدون حجاب ولا تحرج للنساء الكريمات الفاضلات ولو من غير المسلمات. وأما الفاسقات اللاتي لا حياء عندهن ولا يعتمد على أخلاقهن وآدابهن فيجب أن تحتجب عنهن كل امرأة مؤمنة صالحة ولو كنَّ مسلمات لأن صحبتهن لا تقل عن صحبة الرجال ضرراً على أخلاقها.
أقول: هذا الرأي وجيه وسديد وحبذا لو تمسكت به المسلمات في عصرنا الحاضر إذاً لحافظن على أخلاقهن وآدابهن، وكفين شر هذا التقليد الأعمى للفاسقات الفاجرات في الأزياء والعادات الضارة الذميمة، التي غزتنا بها الحضارة المزيفة (حضارة الغرب) التي يسميها البعض حضارة القرن العشرين، وما هي بحضارة وإنما هي قذارة وفجارة ولقد أحسن من قال:
إيه عصر العشرين ظنوك عصراً *** نيّرَ الوجهِ مسعد الإنسان
لست (نوراً) بل أنت (نارٌ) وظلم *** مذ جعلتَ الإنسان كالحيوان
الحكم السادس: هل يباح للحرة أن تنكشف أمام عبدها؟
ظاهر قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} أنه يشمل (العبيد والإماء) وبهاذ قال بعض العلماء وهو مذهب (الشافعية)؛ فقد نصّ ابن حجر في المنهاج على أن نظر العبد العدل إلى سيدته كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة. وذهب الإمام أحمد وأبو حنيفة (وهو قول للشافعي أيضاً) إلى أن العبد كالأجنبي فلا يحل نظره إلى سيدته لأنه ليس بمحرم. وتأولوا الآية بأنها في حق الإماء فقط، واستدلوا بما روي عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أنه قال: (لا تغرنكم آية النور فإنها في الإناث دون الذكور) يعني قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} فإنها في الإماء دون العبيد. وعلَّلوا ذلك بأنهم فحول ليسوا أزواجاً ولا محارم، والشهوةُ متحققة فيهم فلا يجوز التكشف وإبداء الزينة أمامهم.
وقالوا إنما ذكر الإماء في الآية، لأنه قد يظن الظان أنه لا يجوز أن تبدي زينتها للإماء لأن الذين تقدم ذكرهم أحرار فلما ذكر الإماء زال الإشكال.
قال ابن عباس: لا بأس أن يرى العبد شعر سيدته (وهذا مذهب مالك).
ومما استدل به الإمام الشافعي رحمه الله ما روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله عنها بعبد قد وهب لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنَّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطَّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى ما تلقى قال: «إنه ليس عليك بأسٌ إنما هو أبوك وغلامك».
الحكم السابع: من هم أولة الإربة من الرجال؟
استثنت الآية الكريمة: {التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة} فسمحت للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم وهم الرجال البُله المغفّلون.
الذين لا يعرفون من أمور النساء شيئاً وليس لهم ميل نحو النساء أو اشتهاء لهن، بحيث يكون عجزهم الجسدي، أو ضعفهم العقلي، أو فقرهم ومسكنتهم، تجعلهم لا ينظرون إلى المرأة بنظر غير طاهر أو يخطر ببالهم شيء من سوء الدخيلة نحوهن.
ونحن ننقل هنا بعض أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين ليتوضح لنا المعنى الصحيح للآية الكريمة، وندرك المراد من قوله تعالى: {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال...}.
قال ابن عباس: هو المغفل الذي لا حاجة له في النساء.
وقال قتادة: هو التابع يتبعك ليصيب من طعامك.
وقال مجاهد: هو الأبلة الذي لا يهمه إلا بطنه ولا يعرف شيئاً من النساء.
وهناك أقوال أخرى: تشير كلها إلى أن (أولي الإربة) المراد به غير أولي الحاجة إلى النساء وليس له شهوة أو ميل نحوهن إما لأنه أبله مغفل لا يعرف من أمور الجنس شيئاً أو لأنه لا شهوة فيه أصلاً.
قصة المخنث:
روى البخاري وغيره عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: أن مخنثاً كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يعدُّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وعندها هذا المخنث وعندها أخوها (عبد الله بن أبي أمية) والمخنث يقول: يا عبد الله إن فتح الله عليك الطائف فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان فسمعه صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عدو الله لقد غلغلت النظر فيها»، ثم قال لأم سلمة: «لا يدخلنَّ هذا عليك».
يقول الأستاذ المودودي: ولعمر الحق إن كل من يقرأ هذا الحكم بنية الطاعة لا بنية أن ينال لنفسه سبيلاً إلى الفرار من الطاعة لا يلبث أن يعرف لأول وهلة أن هؤلاء الخدام والغلمان المكتملين شباباً في البيوت، أو المطاعم والمقاهي، والفنادق، لا يشملهم هذا التعريف للتابعين غير أولي الإربة بحال من الأحوال.
الحكم الثامن: من هو الطفل الذي لا تحتجب منه المرأة؟
اختلف العلماء في قوله تعالى: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} فقال بعضهم: المراد الذين لم يبلغوا حد الشهوة للجماع وقال آخرون: بل المراد الذين لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر.
ولعلَّ هذا الأخير أقرب للصواب، وأنَّ المراد بهم الأطفال الذين لا يثير فيهم جسم المرأة أو حركاتها وسكناتها شعوراً بالجنس، لأنهم لصغرهم لا يعرفون معاني الجنس، وهذا لا يصدق إلا على من كان سنة دون (العاشرة) أما الطفل المراهق فإن الشعور بالجنس يبدأ يثور فيه ولو كان لم يبلغ بعد سنَّ الحلم فينبغي أن تحتجب منه المرأة.
الحكم التاسع: هل صوت المرأة عورة؟
حرم الإسلام كل ما يدعو إلى الفتنة والإغراء.
فنهى المرأة أن تضرب برجلها الأرض حتى لا يسمع صوت الخلخال فتتحرك الشهوة في قلوب بعض الرجال {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}.
وقد استدل الأحناف بهذا النهي على أن صوت المرأة عورة فإذا منعت عن صوت الخلخال فإن المنع عن رفع صوتها أبلغ في النهي.
قال الجصاص في تفسيره: (وفي الآية دلالة على أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذا كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها. ولذلك كره أصحابنا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت، والمرأةُ منهية عن ذلك، وهو يدل على حظر النظر إلى وجهها للشهوة إذا كان ذلك أقرب إلى الريبة وأولى بالفتنة).. ونقل بعض الأحناف أن نغمة المرأة عورة واستدلوا بحديث (التكبير للرجال والتصفيق للنساء) فلا يحسن أن يسمعها الرجل.
وذهب الشافعية وغيرهم إلى أن صوت المرأة ليس بعورة لأن المرأة لها أن تبيع وتشتري وتُدْلي بشهادتها أمام الحكام، ولا بد في مثل هذه الأمور من رفع الصوت بالكلام.
قال الألوسي: (والمذكور في معتبرات كتب الشافعية- وإليه أميل- أن صوتهن ليس بعورة فلا يحرم سماعه إلا إن خشي منه فتنة).
والظاهر أنه إاذ أمنت الفتنة لم يكن صوتهن عورة فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كُنَّ يروين الأخبار، ويحدِّثن الرجال، وفيهم الأجانب من غير نكير ولا تأثيم.
وذهب ابن كثير رحمه الله إلى أن المرأة منهية عن كل شيء يلفت النظر إليها، أو يحرك شهوة الرجال نحوها، ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها فيشم الرجال طيبها لقوله عليه السلام: «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا» يعني زانية ومثل ذلك أن تحرك يديها لإظهار أساورها وحليها.
أقول: ينبغي على الرجال أن يمنعوا النساء من كل ما يؤدي إلى الفتنة والإغراء، كخروجهن بملابس ضيقة، أو ذات ألوان جذابة، ورفع أصواتهن وتعطرهن إذا خرجن للأسواق وتبخترهن في المشية وتكسرهن في الكلام وقد قال الله تعالى: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] وأمثال ذلك ممّا لا يتفق مع الآداب الإسلامية، ولا يليق بشهامة الرجل المسلم، فإن الفساد ما انتشر إلا بتهاون الرجال، والتحلل ما ظهر إلا بسبب فقدان (الغيرة) والحمية على العرض والشرف، والذي لا يغار على أهله لا يكون مسلماً وقد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم ديوثاً فقال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها: الرجلة من النساء (أي المتشبهة بالرجال) ومُدْمِنُ الخمر والديوث، قالوا: من هو الديوث يا رسول الله؟ قال الذي يُقِرُّ الخبث في أهله»
وفي رواية الذي يغار على أهله.
وقديماً قال شاعرنا العربي:
جرد السيف لرأس *** طارت النخوة منه
نسأل الله أن يحفظ علينا ديننا وشرفنا وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه سميع مجيب الدعاء.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة:
أولاً- النظر بريد الزنى ورائد الفجور فلا ينبغي للمؤمن ان يسلك هذا الطريق.
ثانياً- في غض البصر وحفظ الفرج طهارة للإنسان من الرذائل والفواحش.
ثالثاً- لا يجوز للمسلمة أن تبدي زينتها إلا أمام الزوج أو المحارم من أقاربها.
رابعاً- على المسلمة أن تستر رأسها ونحرها وصدرها بخمارها لئلا يطلع عليها الأجانب.
خامساً- الأطفال والخدام والغلمان الذين لا يعرفون أمور الجنس لصغرهم لا مانع من دخولهم على النساء.
سادساً- يحرم على المسلمة أن تفعل ما يلفت أنظار الرجال إليها أو يثير بواعث الفتنة.
سابعاً- على جميع المؤمنين والمؤمنات أن يرجعوا إلى الله بالتوبة والإنابة ويتمسكوا بأداب الإسلام.
ثامناً- الآداب الإجتماعية التي أرشد إليها الإسلام، فيها صيانة لكرامة الأسرة، وحفظ للمجتمع المسلم.
حكمة التشريع:
أمر الله تعالى المؤمنين بغض الأبصار، وحفظ الفروج كما أمر المؤمنات بمثل ما أمر به المؤمنين تزكية للنفوس وتطهيراً للمجتمع من أدران الفاحشة والتردي في بؤرة الفساد والتحلل الخلقي، وتجنيباً للنفوس من أسباب الإغراء والغواية.
وقد زاد الإسلامُ المرأة تزكية وطهراً، أن كلَّفها زيادة على الرجل بعدم إبداء الزينة لغير المحارم من الأقرباء وفرض عليها الحجاب الشرعي ليصون لها كرامتها، ويحفظها من النظرات الجارحة، والعيون الخائنة، ويدفع عنها مطامع المغرضين الفجار. ولما كان (إبداء الزينة) والتعرض بالفتنة من أهم أسباب (التحلل) الخلقي و(الفساد) الاجتماعي لذلك فقد أكد الباري جل وعلا ذلك الأمر للمؤمنات بتجنب إظهار الزينة أمام الأجانب ليسد نوافذ الفتنة ويغلق أبواب الفاحشة ويحول دون وصول ذلك السهم المسموم فالنظرة بريد الشهوة ورائد الفجور ولقد أحسن من قال:
كلُّ الحوادث مبداها من النظر *** ومعظمُ النار من مستصغر الشرر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين (الغيد) موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته *** لا مرحباً بسرور جاء بالضرر
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها *** فتك السهام بلا قوسٍ ولا وتر
يقول شهيد الإسلام (سيد قطب) عليه رحمه الله في تفسيره (ظلال القرآن) ما نصُّه:
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ولا تستثار، فعمليات (الاستثارة) المستمرة تنتهي إلى سُعَار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي. والنظرة الخائنة والحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، والجسم العاري، كلها لا تصنع شيئاً إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون.
وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء (مجتمع نظيف) هي الحيلولة دون هذه الاستثارة وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليماً.
دون استثارة مصطنعة، وتصريفُه في موضعه المأمون النظيف.
ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين، والاطلاع على مواطن الفتنة المخبوءة.. شاع أن كل هذا (تنفيس) وترويح ووقاية من الكبت ومن العقد النفسية... شاع هذا على أثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه عن الحيوان والرجوع إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين- وبخاصة نظرية فرويد- ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية.
رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتاً من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية، والدينية، والإنسانية، ما يكذبها وينقضها من الأساس.
نعم شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها إنما انتهى إلى سعار مجنون، لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع.
وشاهدت من الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوماً أنها لا تنشأ إلا من الحرمان. شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه ثمرة مباشرة (للاختلاط) الذي لا يقيده قيد ولا يقف عنده حد.
إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق، وإثارته في كل حين تزيد من عرامته فالنظرة تثير، والحركة تثير، والضحكة تثير، والدعابة تثير، والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات. وذلك هو المنهج الذي يختاره الإسلام مع تهذيب الطبع وتشغيل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة غير تلبية دافع اللحم والدم.
خاتمة البحث:
بدعة كشف الوجه:
ظهرت في هذه الأيام الحديثة، دعوة تطورية جديدة، تدعو المرأة إلى أن تسفر عن وجهها، وتترك النقاب الذي اعتادت أن تضعه عند الخروج من المنزل، بحجة أن النقاب ليس من الحجاب الشرعي، وأن الوجه ليس بعورة. دعوة (تجددية) من أناس يريدون أن يظهروا بمظهر الأئمة المصلحين الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنة ليجددوا للأمة أمر دينها، ويبعثوا فيها روح التضحية، والإيمان، والكفاح.
دعوة جديدة، وبدعة حديثة من أناس يدعون العلم، ويزعمون الاجتهاد ويريدون أن يثبتوا بآرائهم (العصرية الحديثة) أنهم أهل لأن يُنافِسوا الأئمة المجتهدين وأن يجتهدوا في الدين كما اجتهد أئمة المذاهب ويكون لهم أنصار وأتباع.
لقد لاقت هذه الدعوة (بدعة كشف الوجه) رواجاً بين صفوف كثير من الشباب وخاصة منهم العصريين، لا لأنها (دعوة حق) ولكن لأنها تلبي داعي الهوى، والهوى محبَّب إلى النفس وتسير مع الشهوة، والشهوة كامنة في كل إنسان، فلا عجب إذاً أن نرى أو نسمع من يستجيب لهذه الدعوة الأثيمة ويسارع إلى تطبيقها بحجة أنها (حكم الإسلام) وشرع الله المنير.
يقولون: إنها تطبيق لنصوص الكتاب والسنة وعمل بالحجاب الشرعي الذي أمر الله عز وجل به المسلمات في كتابه العزيز، وأنهم يريدون أن يتخلصوا من الإثم بكتمهم العلم {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى} [البقرة: 159] إلى آخر دعاواهم الطويلة العريضة.
ولست أدري أي إثم يتخلصون منه، وهم يدعون المرأة إلى أن تطرح هذا النقاب عن وجهها وتُسفر عن محاسنها في مجتمع يتأجج بالشهوة ويصطلي بنيران الهوى ويتبجح بالدعارة، والفسق، والفجور؟!
ولقد سبقهم بهذه (البدعة المنكرة) بعض أهل (الهوى) من الشعراء حين قال:
قل للمليحة في الخمار المذهب *** أذهبتِ دينَ أخ التُّقى المتعبد
نور الخمار ونور وجهك ساطع *** عجباً لوجهك كيف لم يتوقد
ولو أن هؤلاء (المجدِّدين) اقتصرت دعوتهم على النساء العاريات، المتبرجات تبرج الجاهلية الأولى، اللواتي خالفن تعاليم الإسلام بخلعهن للحجاب فدعوهن إلى التستر والاحتشام وارتداء الجلباب الذي أمرهن به الله عز وجل وقالوا لهن: إن أمر (الوجه والكفين) فيهما سعة وإن بإمكانهن أن يسترن أجسادهن ويكشفن وجوههن لهان الخطب، وسهل الأمر، وكانت دعوتهم مقبولة لأنها تدرج بالتشريع بطريق الحكمة، ولكنهم يدعون المرأة المؤمنة المحتشمة الساترة لما أمر الله عز وجل ستره، فيزينون لها أن تكشف عن وجهها وتخرج عن حيائها ووقارها فتطرح النقاب تطبيقاً للكتاب والسنة بحجة أن الوجه ليس من العورة؟
وإنه لتحضرني قصة تلك المرأة المؤمنة الطاهرة التي استشهد ولدها في إحدى الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت تبحث عن ولدها بين القتلى وهي متنقبة فقيل لها: تبحثين عنه وأنت متنقبة؟ فأجابت بقولها: لأن أرزأ ولدي فلن أرزأ حيائي؟.. عجباً والله لهؤلاء وأمثالهم أن يدعوا (المرأة المسلمة) إلى كشف الوجه باسم الدين، وأن يزينوا لها طرح النقاب في مثل هذا العصر الذي فسد رجاله، وفسق شبابه، إلا من رحم الله وكثر فيه الفسق والفجور والمجون.
ونحن نقول لهؤلاء (المجدِّدين) من أئمة العصر المجتهدين: رويدكم فقد أخطأتم الجادة وتنكبتم الفهم السليم الصحيح للإسلام وأحكامه التشريعية، ونخاطبهم بمنطق العقل والشرع، وكفى بهما حجة وبرهاناً.
لقط شرط الفقهاء- الذين قالوا بأن الوجه ليس بعورة- أمن الفتنة فقالوا: الوجه ليس بعورة، ولكن يحرم كشفه خشية الفتنة، فهل الفتنة مأمونة في مثل هذا الزمان؟
والإسلام قد حرم على المرأة أن تكشف شيئاً من عورتها أمام الأجانب خشية الفتنة، فهل يعقل أن يأمرها الإسلام أن تستر شعرها وقدميها وأن يسمح لها أن تكشف وجهها ويديها؟ وأيهما تكون فيه الفتنة أكبر الوجه أم القدم؟ يا هؤلاء كونوا عقلاء ولا تلبسوا على الخلخال وتتحرك قلوب الرجال أو يبدو شيء من زينتها، فهل يسمح لها أن تشكف عن الوجه الذي هو أصل الجمال ومنبع الفتنة ومكمن الخطر؟.
كلمة العلامة المودودي:
وأختم هذه الكلمة بما ذكره العلامة المودودي في تفسيره لسورة النور حيث قال أمد الله في عمره:وهذه الجملة في الآية الكريمة: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} تدل على أن النساء لا يجوز لهن أن يتعمدن إظهار هذه الزينة غير أن ما ظهر منها بدون قصد منهن، أو ما كان ظاهراً بنفسه لا يمكن إخفاؤه كالرداء الذي تجلل به النساء ملابسهن (يعني الملاءة) لأنه لا يمكن إخفاؤه وهو مما يستجلب النظر لكونه على بدن المرأة على كل حال فلا مؤاخذة عليه من الله تعالى وهذا هو المعنى الذي بينه عبد الله بن مسعود والحسن البصري.
أما ما يقوله غيرهم إن معنى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما يظهره الإنسان على العادة الجارية. ثم هم يدخلون فيه (وجه المرأة وكفيها) بكل ما عليها من الزينة، أي أنه يصح عندهم أن تزين المرأة وجهها بالكحل والمساحيق والصبغ، ويديها بالحناء والخاتم والأسورة، ثم تمشي في الناس كاشفة وجهها وكفيها... أما نحن فنكاد نعجز عن أن نفهم قاعدة من قواعد اللغة يجوز أن يكون معنى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما يُظْهره الإنسان فإن الفرق بين أن يَظْهر الشيء بنفسه، أو أن يُظهره الإنسان بقصده واضح لا يكاد يخفى على أحد، والظاهر من الآية أن القرآن ينهى عن إبداء الزينة ويرخص فيما إذا ظهرت من غير قصد، فالتوسع في حد هذه الرخصة إلى حد إظهارها (عمداً) مخالف للقرآن ومخالف للروايات التي يثبت بها أن النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما كن يبرزن إلى الأجانب سافرات الوجوه، وأن الأمر بالحجاب كان شاملاً للوجه، وكان النقاب قد جعل جزءاً من لباس النساء إلا في الإحرام.
وأدعى إلى العجب أن هؤلاء الذين يبحون للمرأة أن تكشف وجهها وكفها للأجانب، يستدلون على ذلك بأن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة مع أن الفرق كبير جداً بين (الحجاب) و(ستر العورة) فالعورة ما لا يجوز كشفه حتى للمحارم من الرجال، وأما الحجاب فهو شيء فوق ستر العورة. انتهى.

1 | 2 | 3